عاجل
كتاب وآراء
أخر الأخبار

ما توافر من إتحاف أُحْجية التاريخ من بركات مولاي عبد الله بن حمد المكاوي.

محسن الاكرمين

السبت 27 غشت 2022 – 17:18

المقبرة المشتركة بين الشيخ الكامل وباب البرادعيين بحق الله كبرى، وبدون مغالاة تحمل كل قبورها دواوين من تاريخ وأحداث صامتة بالتغافل ونسيان التدوين. مقبرة كبرى المقابر، من حيث المساحة وعدد الموتى الذين احتضنتهم قبلة محمد (ص) في بقاعها.

 من البدء لا نقبل الموعظة فيما نسرد من أحداث(أحجية)، لا نقبل بردود كتابة البطولات المعيارية، فنحن نفكك موروث اجتماعي/ شفهي له فضل التنوع على مدينة تاريخية بامتياز. نحن لا نروج لسلعة منتهية الصلاحية، بل نقتحم سجل تاريخ مدينة من بوابة الشمولية (السماع) وسلطة النقد. نقتفي تاريخ الدراويش والصالحين والأضرحة والمزارات والزوايا، ونقتنع بالفطرة على وجوب التأصيل، وصناعة تاريخ الواقع والخيال الذي يوازي في مخرجاته تثمين المدينة العتيقة، ولما لا توثيق ما ورد من إتحاف الخوارق والإثارة بمكناس القديم.

لنتفق منذ البداية بأن الإخباريات الواردة لا نعتمدها بالاقتناع، وليست موثقة بمرجعية المنهج التاريخي، بل قد نرنو نحو ذكر الحقائق بالموازاة مع شفهي الخوارق، نقتفي استيفاء ضبط الواقع والخيال. كما يُمكننا هذا المسلك من تسويق تاريخ مزدوج لمدينة مكناس يحمل الحقيقة وتوابل الخوارق، حتى لا نقف عند نهاية سذاجة جواب لسؤال التاريخ المدرسي: من بنى مدينة مكناس؟

بعد استيفاء الأدعية الربانية، تكون المقبرة الكبرى بباب البرادعيين كبرى بتنوع مداخل أبوابها الستة وتزيد. تكون وأنت تسير في مسارب القبور في حكم الدراسة التاريخية، تقف عند شواهد قبور ذات دلالة في الزمن، وتجاوز احتساب ما فوق القرون العمرية. مقبرة احتفظت بتوزيع عادل لتلقي الموتى بنسق تنظيم المدافن التقليدية.

غير بعيد عن الطريق المؤدين من وإلى أقواس ثلث فحول توجد بوابة الضريح مولاي عبد الله بن حمد (المكاوي)، حين ترفع مشاهد عينيك تقع على أقبية الضريح وأدراجه العلية، تستهويك المعرفة وحب الاستطلاع، والدخول إلى أعتاب الزيارة بلا مكملات بخور ولا شموع نور. على الباب العلوي يطالعك ما هو مرقوم بأعلى باب الضريح: روضة قد أصبحت منها لنا /// جنة الفردوس في باب البلد / إن تزرها راغبا في حاجة /// قل أعبد الله جد يا بن حمد.

اختلفت الآراء كيف وفد المكاوي إلى مكناس؟ وكيف أقام بكدية العشاق؟ تروي حكايات (الأحاجي)، فتقول: أن الشيخ مولاي عبد الله بن حمد، دفين كدية المقبرة الكبرى، أصله من مكة المكرمة. وتقول الحكاية التي فيها نوع من الاستلهام والخيال، أن الشيخ كان في خلوة صلاة بالرحاب المقدسة المشرقية، وفي نوافل الصلاة كان يحس بحركة رجل لا تخبو حركة عن التوقف، حينها استنكر الفعل وخاصة أنه صادر من امرأة. 

تستند الحكاية (الأُحجية) إلى الولية الصالحة لالة عيشة العدوية (توفيت 1669)، فاستفسر عن سر الحركة، مشددا بأنه سلوك لاديني ولا أخلاقي. حينها كان جواب لالة عيشة العدوية بأن ابنها بأقصى المغرب كان يبكي من شدة جوع الرضاعة، وبحركتها كانت تهدهد به المهد، حتى يصمت إلى حين عودتها من زيارتها المقدسة. لكن الشيخ مولاي عبد الله بن حمد، تبسم، واعتبر الأمر من ملهاة النسوة، ولا داعي لتصديقها بحكم المنطق !! 

تروي (الأحجية) أن الشريفة لالة عيشة العدوية ردت عليه بحزم الصدق، وراهنت على حمله لبلاد المغرب الأقصى دون سفر متعب ولا مشقة حتى يتأكد من تعليلها، وتمة الفراق. قبل الشيخ التحدي والمراهنة وأغمض ونام غفوة، فإذا به سار بكدية العشاق بين أقواس ثلث فحول وباب البرادعيين بمكناس.

بقي الشيخ الغريب مقيما تحت شجرة النارنج. و من مستملحات (الأحجية) في تلك الكدية، فقد كانت ملجأ نُزهة مُطلة على جمالية (حوض تاورة)، كانت الأنغام وعشق الملحون تُغري السامعين ومن تناول دخان (الكيف) بالمناولة. في تلك الكدية حضر مولاي عبد الله بن حمد ليلة ساهرة من بعيد، ومن شدة ما استنشق من دخان (الكيف) المستهلك، دخل في نوم عميق.

في الصبح وجد العساكر على رأسه وقوفا، وهم يسألونه اتهاما عن جثة قتيل أصبح بتلك الكدية !! استغرب من التهمة وهو الشيخ الزاهد المتصوف الورع، وكان جوابه: هلا سألتموه من قتله؟ ضحك الحراس، واعتبروا الشيخ لازال به بنج من ليلة نَشطَة !!! لكنه أَصَّر على الأمر وألح عليهم. وفي تهدئة حجته بالتفنيد، سأل أحد العساكر بالاستنكار الجثة الميتة، وهو في لهو من أمره: من قتلك؟ تقول (الأحجية) بقدرة قادر قد فكت لسان الميت ببينة وأجاب: رجل يركب بغلا متجها صوب غرب المدينة، وعنده سبعة قروش في ثنايا قُرُب !!

انتشر الخبر وصولا للسلطان وبات القبض على القاتل مؤكدا، ومن بركات الشيخ مولاي عبد الله بن حمد حضور السلطان بموكبه نحو إقامة الشيخ تحت ظل شجرة النارنج. وبعدما شاع الخبر بين حاضرة مكناس وأحوازها، أصبح للشيخ أتباع ومريدون أوفياء، وبات الحُبس يقيد باسمه، حتى أنه يقال: أن ثلث الحبس بمكناس مرتبط باسم الشيخ مولاي عبد الله بن حمد. 

و في المورد التاريخي يشاع أنه كان ذا دراية دينية وزهد صوفي، وأنه كان يوثر الحياة الأخرى، وأقسم ألا يبيت قرش مال في جيبه، إلا صدقه على من يحتاجه. توفي ودفن بنفس المكان الذي تركته به لالة عيشة عدوية حسب (الأحجية)، وبنيت قبة عليه، وبات له موسم ومزار.

زر الذهاب إلى الأعلى