عاجل
كتاب وآراء

تذكر ألا تنساني يا مناد العز.

محسن الأكرمين (فصل من رواية عندما يعود الرجال)

الثلاثاء 14 فبراير 2023 – 15:02

تذكر ألا تنساني، بهذه العبارة ختمت حديثها، وانطلقت مهرولة نحو باب سيارتها ممتطية. كان مناد العز لا يزال واقفا وعيونه تلتقط صورا لأنثى البحيرة التي زادت بهاء بأناقة التزين. في ملمس دفع السرعة كانت تالا تختفي بين زحام الطريق. عاد رجوعا إلى ظلمة مكان غرفته، أشعل النور الخافت، ثم ارتمى فراشا.
جلس متمددا، وحط تفكيره في سلم مراقي الفشل الذي تمرغت فيه أنتفه بالتكرار المرير. من جيل التميز الدراسي والرتب المتقدمة، نحو العطالة المقنعة بأعمال لم تواكب طموحه الحياتي. من شعلة في العطاء والأمل، نحو تذوق الملهاة المهملة للذات والأداء. لحظتها وجد نفسه يجالس قنينة غير فارغة بتمامها من ذاك الشراب الذي عشقه حد الثمالة. كان مناد العز يلهو في هاتفه جيئة وإيابا، وبين الصفحات المستفزة، و يتوقف عند كل صورة كل أنثى حسناء من بلاد الجن والملائكة. تفكيره بات يسير بتحديد السرعة الدنيا الصغرى، والمراقبة برادار تلبد العقل الواعي باللاوعي. في قرار ذاته المكفهرة، تذكر طفولته اليافعة في الحلم، والطموح الحياتي، وشقاوة اللعب. استحضر دفة حياته السليمة، والتي انقلبت سهوا عند أول منعرج غائر بلا منبه إشارة احذر، والعودة نحو قرية آيت أمياس بمنحدر الجبل الشامخ.
عند ملامسة أزرار الهاتف، سقطت عيناه على مشهد حديث الغلاء وتلف الشعب. من ثقل تفكيره الثمل بدا مشدوها لصور بكاء من زلزال تركيا وسوريا، بدا وكأنه يراجع أيامه الغابرة عندما كان صغيرا ولازالت الأسرة ملتفة بحضن الأم والأب والإخوة يوم تزلزلت الأرض في عيد أضحى. من عيونه التي تضيق كلما أفرط في الشرب، يبدو اليأس يركبه. يبدو أن الماضي قد تحرك ليحضر بين أضلاع آلامه المتكسرة الأطراف.
ألقى بهاتفه أرضا، وسالت من عينيه دمعات عن الزمن الذي كانت الفرحة لا يزاحمها الألم. تناول القنينة والكأس المفروم الحواشي، لكن السائل الأحمر انتهت نشوته بالتقطير النهائي. ألقى بالقنينة الخضراء على الحائط فانكسرت إربا إربا، وسال ما بقي منها من الدمع المدادي على بياض الحائط ، مشكلا عملا دراماتيكيا، لا معنى له عند الرسامين الوجوديين غير دلالة مأساة التراجيديا.
من طفح الثمالة، تمشى على ركبتيه ويديه حتى وصل الحائط الذي لا زالت دموع السائل تسبح عليه تسربا، وبلا متلازمات، كان يشكل قرون الغول الملوثة بالملهاة، رسم بحق رأس ميدوزا. كان خربشته تشكل مفارقات بين حاضره الدائخ في رشف سم الحياة، وحب أنثى البحيرة التي فارقته بصيغة (تذكر ألا تنساني). على الحائط الذي اختلط دم جرح يده الأحمر الفاقع مع السائل المدادي، بدا المشهد المزخرف يشكل خلفية فيلم رعب مصاصي دماء داخل غرفة قصية، وبتموج حركات الظل البطيء من نور خافت.
عاد استرجاعا بالحبو إلى مكان جلوسه المعتاد، واستلقى أرضا مثل نشير غسيل في سماء باردة. أحلام زجاجة حياته المتناثرة بمساحة الغرفة، وعيناه لا تزيغان نظرا عن الحائط المفزع برسومات الأشباح الجهنمية. كان الألم يخامر تفكيره الضيق بالتثاقل، كان يسترجع كل الذكريات التي بحق تجيء وتؤدي، ولا يتذكر منها غير المأساة التراجيدية. (تذكر ألا تنساني)
الليل يسير نحو انبلاج صبح جديد، يعيش مناد العز بين فصول مسرحية ميكيافلي الهزلية والوقحة في المجون الفظ. مسرحية حياته الحقيقية تكشف عن الواقع بشكل ساخر، وتتناسى بداية إصلاح الذات بالترميم المستقيم، وتناسي حب تالا التي انطلقت هرولة بسيارة الدفع الرباعية.
سمع طرقا متتاليا على باب الغرفة ونداء. أيقن أن ابنته من طليقته، تعوده زيارة كل صباح يوم أحد. نهض والخجل يلملم ما علق بالغرفة من متناثرات الزجاج. ثم نفض عن وجهه مكر الحياة ماء باردا، والحسرة بالتطهير الحياتي. فتح الباب وارتمى خارجه الغرفة في حضن ما تبقى من أمل حياته اليانعة.

زر الذهاب إلى الأعلى