ذ. مراد احتي
محلل سياسي، باحث في مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات.
الثلاثاء 30 يوليوز 2024 – 00:07
يعتبر الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد فرصة لدى المؤسسة الملكية لتحديد التوجهات العامة الاستراتيجية وهندسة الخطوط العريضة للسياسات العمومية في المجالات الأساسية للحياة العامة في ضوء التحولات والتطورات التي تشهدها البلاد في شتى المجالات.
من هذا المنطلق، أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده على أهمية المكتسبات المحققة في مجال حماية الوحدة الترابية، وما يلاحظ هنا هو كون الخطاب الملكي السامي تطرق للقضية الوطنية الأولى بشكل مختلف، يحيلنا إلى القول بأن مغرب اليوم قد انتصر بشكل واضح في تعزيز الشرعية الدولية للأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، كما يلمح عن قرب مجموعة من المكتسبات الديبلوماسية التي سوف تنهي هذا الملف في ضوء المبادرة الملكية المتمثلة في الحكم الذاتي سيتم الإعلان عنها بشكل رسمي في السياق الزمني المناسب.
من جهة أخرى، فقد خصص العاهل الكريم مساحة كبيرة في الخطاب الملكي لموضوع الماء، وباستخدام تقنية تحليل المضمون الكيفي التي تمكننا من فهم الأهداف المتوخاة من كل كلمة وردت في الخطاب، فإن الواضح هو أن صاحب الجلالة يدعو إلى وضع سياسة عمومية مندمجة ومستعجلة في مجال الماء، باعتباره التحدي الأكبر الذي تواجهه البلاد وبشكل أكثر من أي وقت سابق، إن المقاربة الملكية لموضوع الموارد المائية في ظل التقلبات المناخية التي أثرت تداعياتها بشكل كبير على المياه الباطنية هي مقاربة واقعية تدعو الجميع إلى تحمل مسؤولياته في هذا الميدان، وأكثر من ذلك، فهي مقاربة إجرائية تؤكد على ضرورة التحرك المستعجل للتصدي لظاهرة الإجهاد المائي والتخفيف من آثاره من خلال مشاريع تحلية مياه البحر، ويبدو هنا أن للمؤسسة الملكية وكما هو مألوف لها دراية كبيرة بالتحديات العملية الي تواجه الماء، حيث أشار إلى مسألة تكوين مهندسين وتقنيين متخصصين في هذا المجال، إضافة إلى دعم المقاولات المختصة في تحلية المياه، وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه مجموعة من الفاعلين في السابق، كما أنه يجب الشروع في تنزيل هذه التوجيهات في أقرب وقت ممكن، لأن الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة الملكية لا تأتي إلا بناء على تشخيص دقيق قائم على دراسات معمقة، تجعل المتدخلين المعنيين غير محتاجين لأي دراسة أو تسخيص آخر، وإنما فقط إلى التنزيل الأمثل لهذه التوجيهات الملكية السامية دون أي هضر للزمن التنموي.
وعلى مستوى الساحة الدولية، فإن الملك محمد السادس نصره الله بصفته رئيساً للجنة القدس، أبان عن أهمية الجهود التي يبذلها المغرب في سبيل الشعب الفلسطيني الشقيق، لاسيما بعدما تزايدت حدة الحرب، حيث شكل المغرب أول دولة تفتح معبرا بريا وتتمكن من إيصال المساعدات الغذائية والطبية للفلسطينيين للتخفيف من شدة المأساة التي يعيشونها خاصة في المجال الغذائي، كما أن تسليط الضوء على القضية الفلسطينية في خطاب العرش المجيد، ليس بمحض الصدفة أو بالشيء العادي، بل إن القضايا التي يتم تناولها في هذه المناسبة تعتبر إطارا مرجعيا في الفلسفة السياسية للدولة، ففي هذه المناسبة يجدد صاحب الجلالة الحديث عن أولوية الأولويات التي تهم الشعب من جهة أولى وتهم العرش من جهة ثانية، حيث أكد ملك البلاد على مساندته الصريحة لتأسيس دولة فلسطين كاملة الأركان ومستقلة عاصمتها القدس، ذلك بشكل يعبر عن سيادة الدولة وخصوصية القضايا التي تهتم بها.
أما من جهة أخرى، فقد نبه العاهل الكريم إلى مسألة جوهرية تتعلق بالأمن الغذائي الذي لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يغفل عنه، فمن المعلوم لدى الباحثين والمحللين المتتبعين للمجال السياسي أن الخطب الملكية السامية تمتاز ببعد النظر، والتخطيط الاستراتيجي الذي يمكن من تأطير مختلف الفاعلين والمساهمين في صناعة القرار العمومي، ولذلك، فإن تطرق صاحب الجلالة لموضوع الماء من ناحية وموضوع الأمن الغذائي من ناحية ثانية، يبين أهمية العلاقة الرابطة بين المجالين، فلا يمكن الحديث عن الأمن الغذائي دون الماء باعتباره مادة حيوية أساسية للحياة، وعليه ينبغي إذن الحرص على بلورة سياسة مائية تهدف بالدرجة الأولى إلى ضمان الأمن الغذائي للمواطن، كما أن السياسة الفلاحية يجب أن تستحضر ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المواد المطلوبة بشكل أساسي لدى حاجيات المواطن المغربي، عوض التركيز فقط على الصادرات التي تحقق بالفعل أرباح اقتصادية، لكن في نفس الوقت تستنزف المياه الجوفية وتهدد بشكل مباشر الأمن الغذائي للبلاد وهو الأمر الذي يتنافى مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2015/2030 والمعتمد من طرف المغرب.