الكاتب محسن الاكرمين
الاثنين 02 شتنبر 2024 – 15:21
حين تشدك مكناس من حسنها ومجد تاريخها، فاعلم أنها ستحضر حتى في الكتابات الأدبية… اليوم استرجاع لأول مولود روائي ( نوارة …وجه عروس) مودتي الغالية لكم جميعا سادتي الكرام…
مدينة سبع لوييات…(مشهد من رواية : نوارة …وجه عروس).
… لليوم الثاني لم تغمض أطراف عيوني نومها الطبيعي ، حينها قررت الترجل والتجول كالمتسكع بين أزقة حواري المدينة القديمة .ثِقل النوم يَبْرز من قسمات وجهي مُنْتكسا بالتشويش، وغياب عدم تهديف الاتجاه. لحد الآن، لم يلازمني الفرح منذ أن تحولت دفة حياتي بمتحول القدر غير المقدور عليه بالتغيير، فدوام التفكير المرهق داخليا بالتساؤل: لم أنا؟ ، فالرأس يزيد ثقل حمل همِّ الحياة ويشتعل شيبا.
بتلك الأزقة الضيقة في المدينة العتيقة بمكناس، لا تسمع إلا صوت من يستعطفك ويطلب منك الصدقة لوجه الله. لا تسمع إلا دقة نجار شيخ بمطرقة على خشب العرعار الجاف، و الذي تَنْخره عيون (معزة) بارزة. في آخر الدرب، لاحت لي بالتقابل غير البعيد، امرأة قصيرة القامة مكتنزة الجسم تلتحف حايكا أبضا. امرأة لا تتحرك بالبطء إلا بمساعدة عكاز من غصن شجرة خروب غير مستو الأطراف. بِتْتُ أقترب منها بالاتجاه المعاكس، حاولت أن أسحب عيني من التقاط نظراتها الحادة، لكني وللأسف لم أفلح من سحر ملمح قامتها. إنها بحق امرأة مميزة بقسمات وجهها المستديرة، وجبهتها العريضة المتجعدة ، ونور رباني يَسْطع بخفة حركة ارتداد العيون.
لحظة توقفت عن المشي واستدارت بملمح الإبصار رافعة رأسها نحوي، فمادام قِصر قامتها قد منحها ولو للحظة تعديل تقويسة ظهرها بالتمام . هنا لامست من عينيها قسوة الزمان، وحينها لم أستطع لا إتمام سيري ولا افتتاح الكلام . كنت أتابع حركاتها باهتمام، وكأنني أعرفها متم المعرفة، وكل صغيرة أو كبيرة إلا وعيني تتبعها بالتسجيل والمعاينة. استبدلت المرأة يد العكاز من اليسار إلى اليمين بالتوسط ، ولحد حركاتها المتتالية لم تبح لا بكلمة واحدة . هنا استرجعت ماضي الطفولة عندما كنا نتبع تلك المرأة التي لا تزور حينا إلا مرة كل شهر، كنا نطلق عليها (أم صاندلة) تسمية كانت تتردد على ألسنا الصغيرة لا نعرف دلالتها، إلا من أنها كانت تنتعل (صاندلة) بلاستيكية من فردتين مختلفتي اللون .
أحسست بيد خشنة تقبض على أطراف أصابعي، فزعت رُعبا وتخيلت أن ( أم صاندالا ) عادت لتنتقم مِنِّي اليوم، ومن شقاوة الصغر في مشاكستها. في دواخلي سكن خوف شديد ، ولم يسحبني منه إلا صوت طالب (معاشو) بحماره الأشهب (عنداك عنداك…)، لحظتها سحبتني العجوز برفق من مكاني، لأفسح الطريق للحمار المتبختر، والذي من المؤكد الأكيد أنه خبر الأزقة، وعرف أن المارة يفسحون له الطريق كرها لا احتراما. مرَّ الحمار مزهوا ولم يُبد أية التفاتة إلينا مادام انه يحمل ثقلا يترنح تحته، وبالكاد يرفع رجلا تلو الأخرى. تابعت مسيرة الحمار رغم أن صاحبه تخلف عن إدراكه بالسير، وهو في قراره يَفطن أن حماره لن يتيه في مدينة الأحاجي وسبع لوييات .
وبمتم إطلالة أشعة شمس من فجوة صغيرة بين المنازل العتيقة المتهالكة والمتهاوية، أعادتني إلى المكان بعين طرفها الأكبر المغمض من نور الشمس، وكان هذا سببا آخر من شدة الأرق الذي يركب جسمي كليا. عودتي إلى من لا زالت تشد على رؤوس أصابعي اليمنى ، حينها سحبت يدي برفق وأردت أن التقط ولو درهما من جيبي للسيدة التي تبدو عليها أثر قسوة زمن الجذب بالمدينة البئيسة، لكنها أشارت أنها لا تعنيها الصدقة، وليست في حاجة إلى درهم قتل الحلاج بسببه يوما ما، وابتسمت برفق الشفاه المطبقات. حينها لاحظت أنها لم تعر ملمح عيناي لها بالاستفهام ولا الملاحظة ، لكنها أسرت على الحديث معي، والله لقد توجست خيفة من أمرها، وبدأت لعبة تكاثر التفكير في مخيلتي تتوافد، أكثر من طلب وسؤال واستفسار واستفهام، لكنها بذكاء العارف، سحبتني من مكاني منادية علي بأسلوب نداء القريب: أيها التائه الغريب في مكان الأجداد. لقد كان حلمي الواقف المتردد الليلة باللقاء بك في نفس المكان أمام مدفن سيدي عمرو بوعوادة، هنا تلفتتُ يُمنة ويسرة فلم أجد إلا دربا أحدب الهندسة ضيق الجوانب … قاطعتها برفق لالة الشريفة ما مسك من حلم إن هو إلا أضغاث أحلام . نعم، أنا ابن المدينة، ولست بذلك الغريب التي تقطعت به السبل وتخلفت عنه الطرق. ضحكت بالتكرار الخفيف غير المفهوم المرامي، حينها كنت ألقيت نظرة خاطفة على فمها فلم أجد أي سن بادية فيه، إلا بقيا جذور من النوعية المنكسرة السوداء. هنا اختلط علي أمر المرأة بملامحها الذي شاخت وهرمت، وشأن مدينتي التي تتقاذفها الأيدي والسياسات التي لا حكمة فيها إلا من نفع المنتفعين، واسترزاق الفساد.
أقسمت المرأة بغليظ الأيمان أنني غريب ليس على المدينة ولا على شوارعها وأزقتها الضيقة، بل غريب عن ذاته، عن تفكيره، عن مستقبل حياته. هنا استولى علي الفزع كمن يلطمني على وجهي الأيسر بقوة ، فق مالك ناعس وأنت ماشي… ما لك مغمض “عنيك” وأنت وسط مدينيك وناسك … هنا استويت مستقيما في وقفتي، ولمحت شقا قليلا من عيناها، فلم ألحظ عليها أثر الشيخوخة ولا شح الحياة، إنها نظرة مرتدة سريعة بين الأولى و الثانية .
آه ، لو كانت المرأة (لالة الشريفة) جنية المدينة الماردة ، لأمرتها حالا بالإصلاح وتشكيل هندسة لمدينة مك..و…ناس. لحظة أحسست بمن يسرق أفكاري. أحسست بأنها الحقيقة الإنسية الماثلة أمامي. أحسست بأني من أبناء هذه المدينة المنسية المنكوبة، حتى ولو اسمها ضاع بين الأوراق والتقارير. تشجعت قليلا، ورحت بيدي أمسح ما علق على رأسها من وهن بيت العنكبوت، الآن وجهت خطابي إليها عن حُلمها الذي راودها غير ما مرة باللقاء معها. استندت إلى الحائط الذي يماثلها شيبا بالتاريخ الماضي، وأكدت أنها زارت جميع زوايا المدينة، زارت جميع المزارات و الأضرحة، وحين تغفو في نومها تلحظ أهل المدينة يسيرون فرادى في حلقة مكشوفة منغلقة، وهم نيام ولا حول لهم ولا قوة …الآن، فكرت في قولها بالصدق من أنني واحد من ناس أهل هذه المدينة التعيسة…