بقلم صبري الحو*
الخميس 19 شتنبر 2024 – 17:59
إن ما وقع في شمال المغرب ، وبالضبط في مدينة الفنيدق ، يدعونا جميعا ، كمغرب رسمي وشعبي وكنخب ، الى إعادة التفكير في الراهن وما يحمله من تناقضات غير يسيرة . فهو ، أي التاريخ الراهن le temps présent ، زمن مثخن بالتحولات التي اصابت الذات الفردية والجماعية في ماهيتها ، مادام فهم الراهن ضروري لمناقشته . فأزمة المعنى تقدم نفسها كعنوان عريض لإفلاس المصالحة مع الذات ضمن تناقضات المشهد العام من كل مداخل الإنصهار .
والسؤال ملح واستعجالي ويدور في حلبة كيف يمكن تجاوز الأزمة التي حلت بنا ، وظهرت أعراضها بفعل ما وقع بالفنيدق كنقطة أفاضت الكأس ؟.
وأزعم أن الفلسفة كماهية للتفكير المنظم ، ضرورية جدا في فضح انحرافات السياسات العمومية التي تمتح من صلب الرأسمالية الفاحشة كما عاشها الغرب نفسه قبل أزمة 1929 لحظة ميلاد الليبرالية الموجهة مع المنظر الإنجليزي كينز . فلا يمكن ، في نظري ، فهم التحولات الحاصلة في مغرب اليوم من دون علوم الإنسان والمجتمع ، حيث فشلت كل الأحزاب في استقطاب النخبة المثقفة إليها ، وبقي التعامل بمنطق وآليات “البقال “وبالتالي حصلت ردة حقيقية في استثمار العلم والفلسفة من أجل فهم التحولات الإنسيابية المتسارعة خاصة من لدن أجيال شابة لا يفهمها الفاعل الحزبي الذي تتجاوز عتبته العمرية الستين سنة في الغالب الراجح .
لكل هذا مطلوب الرجوع إلى الفلسفة وتاريخ الافكار وعلم الإجتماع والسيميولوجيا وعلم النفس الإجتماعي والأنتربولوجيا الثقافية ، وغيرها ، قصد بناء مفاهيم تحرائية سليمة تناسب حجم التحديات التي تواجه المغرب ولعل أخرها فاجعة الفنيدق التي رسمت صورة لا تليق بحجم ما حققه المغرب الذي أخضع القوى العظمى لصالح تبنى مشروعه في الصحراء المغربية .
فالذي ينقصنا مغربيا وراهنا هو حاجتنا الى فن وتقنيات انتاج المعنى ، وبتعبير آخر أكثر دقة ماذا نريد ضمن سعينا الجماعي إلى بناء دولة صاعدة لصالح مجتمع متنزه ومتحضر ؟ الذي يتيه وسط الكينونات المتناهية لمكونات المجتمع كما تجمعها تمغرابيت وتفرقها تفاعلات الأفراد تحت دواعي البؤس الإقتصادي والتشظي الهوياتي . أي في خضم حاجات الأفراد العديدة والمختلفة والمتناقضة في اطار الجماعة الموحدة كما يتمثلها الشعب المغربي الواحد المتنوع .
وقد تبين أن إنتاج هذا المعنى وصموده ضد عوامل تعرية الزمن وتفاعل المكونات ، خاصة في زمن العولمة القاسي ، يحتاج الى عمليات تفكير نسقية مسنودة على قواعد تأمل فلسفي – تاريخي ،أنتروبو سوسيولوجي ؛ تأخذ بعين الإعتبار تناقضات الوطني وسياقات العالمي ، وتستحضر كل أبعاد المطالب المتعددة والمتنوعة والمختلفة والمتناقضة والمتجددة باستمرار، والتي لايمكن تجزئتها وترقيعها وجمعها بشكل اعتباطي وتعسفي باسم التحكم الأغلبي من لدن الثلاثي الحزبي المتحكم في شروط اللعبة السياسية على أنقاض الانتقال الديموقراطي المبتور عن كل سيادة شعبية كما يفيد فاعلون في الميدان .
ومن أجل كمال ومثالية هذه الصناعة ، أي صناعة المعنى المغربي بخصوصياته وفقا لتعاقد المغاربة الدستوري، وهذا الانتاج ، أي من أجل إنتاج فن المعنى ، نحن في حاجة ماسة إلى فهم قانون الفعل الإجتماعي كما أكد يورجين هابرماس ، فعل يمارس الحوار المثمر بين الذات الفردية والجماعية في حاجيات تربية نمائها وسعادتها في العقل والبدن والثروة والهوية والانتاج الإقتصادي و العدالة والحقيقة كما حصل عيشها في الماضي وكما يحصل تمثلها في الحاضر وكما نستشرفها في المستقبل القريب والبعيد .
إن إنتاج المعنى هو العمل الذي لا تقدر الحكومة الحالية على القيام به ولن تقدر ؛ فهي تلتزم السكوت المطبق حيال المٱزق القاسية ، وهي غير مكترثة وغير ملتزمة وغير مسؤولة وكأنها تفكر ضمن شروط التبخيس الممنهج لتطلعات المغاربة بحقهم في السعادة . إنها تستنزف زمن المغاربة الإستراتيجي فقط في عمليات التعيين في المناصب السامية وتوزيع الغنيمة وفق ما سماه محمد عابد الجابري ب ” الفكر ” العربي ” يظل حبيس ثلاثية القبيلة والغنيمة والعقيدة ” ، والأنكى هو الرقص على أحزان المجتمع كما حصل مع رقصة الشباب الحزبي للحزب الاغلبي على شظايا ضحايا الفيضانات والزلزل الذي لم يندمل بعد .
إن الحكومة ، ربما ، تشتغل ضد سيرورة التقدم والتطور الطبيعي لحماية الحقوق والحريات وتحصين المكتسبات الحقوقية كما تبينه مشاريع القوانين المقدمة من لدن المشرف على قطاع العدل في المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية ضدا على كل حس ووعي نقديين سليمين وكأننا بشكل ما أمام ” الإستبداد التشريعي ” الذي ستكون له عواقب وخيمة على الدولة والمجتمع بعلة فقدان الثقة في القاعدة القانونية مع ما قد يؤدي إليه ذلك من انفجار ميكانيزمات تعامل مجتمعي بعيدا عن القانون، ذلك أن وزير العدل بوعي او عن غير وعي بصدد التأسيس لدولة شمولية عبر القانون . والأمثلة عرفها التاريخ وانتهى الأمر بالافلاس”فهل يسعفه عقله للفهم!!
ولا شك أن عدد السجناء بالمغرب يفيد أن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي بما يستعجل اعتماد مقاربات متعددة عكس ما يذهب اليه القائم على وزارة العدل ضدا عن صرخات مختلف القوى الديموقراطية الحية في وطننا العزيز، الذي نحن مستعدون للموت من أجله، وليس كالذين حقائبهم معدة للسفر في أول رحلة .
فعمليات تركيب الإنتاج الجماعي المعنى تحتاج إلى كفاءات ومهارات ومؤهلات وفنون غير موجودة بتاتا لدى الحكومة الحالية التي تتعامل باستثناء عددي على حساب حق المغاربة في قرارات عمومية عادلة ، وسيؤدي الى أعطاب تمس تلاحم المكونات من جهة والى ازمات منفجرة تبدأ فردية بسرعة ثم ترخي بضلالها على الدولة والمجتمع معا وتخدش صورة الوطن في سياق عالمي تلعب فيه الصورة دور الهزيمة في الحرب.
وقد يتحول هذا المصير الفردي والجماعي تبعا مع توالي حالات السقوط وتراكم الأعداد الى شعور بالضحية والغبن مع ما قد يؤدي إليه كل هذا من مأسسة الإحساس باللصقة في الدولة . و مع الوقت وفي اطار محاولات انتاج معنى مضاد يتسبب في تآكل وعاء الجمع الأول او فساد كبير في مجموعات تكوينه الى أزمات في اطار عمليات التحول الذي يعتبر أزمة. سيما و أن هنالك من يقتنص كل الفرص لتلقين الدولة دروسا على خلفية الحقد وازدراء و تبخيس كل مجهوداتها سواء من جهة أعداء الداخل أو أعداء الخارج .
وأُذَكَّرُ هنا بلغه فلاسفة المعنى والصلة ، ومنهج التفكيك والتشارك منهم مارثن هايدجر وجان لوك نانسي في هذه التفاعلات والعلائق في إطار تأثير وتأثر تحت تسلط التفاعلات في حلبة المجتمع بسبب تعنت الحكومة . والأمر يحتاج الى مبادرات حقيقية لادماج فئات الشباب بعيدا عن السكوت المطبق الذي تعتمده الحكومة والذي يعمق الأزمة والشرخ والهوة وكأن مهمة هذه الحكومة هي تبخيس صورة المغرب وخدمة أعدائه !!
ونهاية أعتبر أن تركيز الحكومة على المؤشرات المقياسية ، التي رهنت كل مقدرات الوطن لصالح خدمة مصالح الأقليات ضدا على صورة الدولة داخليا وخارجيا ، يتطلب حقيقة ضرورة تدخل مستعجل من طرف رئيس الدولة جلالة الملك بفعل قوي يعيد الثقة إلى السلطة التنفيذية ومنح بصيص أمل لطاقات الوطن المهدورة في زمن تراهن فيه الدول على شبابها الذي يرمى عندنا نحن بسبب إفلاس إنتاج المعنى عند الحكومة إلى البحر وجبة لذيذة لحيتان البحر بعد ان احكمت الحكومة الحالية بإفلاس السياسات العمومية .
*محامي بهيأة مكناس
وخبير في القانون الدولي ، وباحث في قضايا الهجرة ونزاع الصحراء ،
والرئيس العام لأكاديمية التفكير الاستراتيجي .