محسن الأكرمين.
الجمعة 06 دجنبر 2024 – 17:56
إذا جاز لنا مقاربة فكرة ثنائية التعقل والحمق هندسياً، نجد أن ثمة خطاً مستقيماً واحداً يصل بين النقطتين المتناقضتين بمنتهى المعقوفتين. و عند الرؤية بتفحص اليقين نصل أن هناك عدداً لانهائياً من الخطوط المنحنية الواصلة بين هاتين النقطتين بحدوث متتالية انفصام الحمق عن العقل والتعقل. فإذا كان العقل نظير التكليف لمسار حياتي مستقيم وطيع، فإن الحماقة نظير الخط المنحني بالتموج، والذي يتراكم بعدد نقاطه المتقايسة تشتتا، ويبدو شكله يُماثل فجوات محددات ( اللانهائيات) في الأبعاد.
اليوم التقيت صدفة مع من نصفهم بالحمق أو (الهداوي)، كنت متوقفا على هامش الرصيف الداخلي لحديقة الحب بمكناس، ومنخرطا في حديث طيع على الهاتف. توقف قريبا منِّي متسكعا يبدو عليه الحمق المفرط بالملمح، و(تَهدوِيتْ) في الملابس البئيسة. دنا بالقرب مِنِّي مُلْقيا بأذنه نحو سماعة الهاتف ليسترق السمع بسلاسة !! لم أُعر هذا المشهد اعتبارا، ما دام الحديث كان مكشوفا مع صديق لي حول مفرقعات (بطاقة الملاعب) وتنميط عمليات صحافة متابعة علبة السردين !! حين تململت أحسست بأن التعقل يريد التخلص من الأحمق بأقل الدرجات الممكنة، لكنه كان ذكيا واستدار بزاوية التربيع، وبات يتابع الحديث على مرأى من عيوني.
حين كنت أتوقف كان يتوقف محاذيا لي ، وحين كنت أمارس حديثة الأبكم والإشارة، كان يبتسم من شدة فرطي في الحماقة التعقلية والبلاهة الإنسية. أجلسته بجانبي على مقعد متهالك من حديقة (الحب) بلا حب في تنمية مكناس، والتي باتت تُمثل وكرا لإتلاف العقل بالمنشطات الروحية الرخيصة… لم يمتنع، ولم يمارس التنطع من أوامر العقل للاعقل. أكملت المهاتفة، وقد اختتمها صديقي بكلمات كانت دالة (بطاقة الملاعب، تهافت التهافت بالهرولة والانبطاح الكلي، وتقليص الحرية التنوعية حتى في التبعية والولاء، وصناعة التحكم الأحادي… فبعد بطاقة الملاعب بالتمييز والتبخيس… سيأتي تمرير قانون آخر حول التوافق على الحق في الإضراب عن الإضراب !!! جملة أعجبتني من صديقي الصحفي المهني (الإضراب عن الإضراب…) !!!
ابتسم المتطفل اللاعاقل صاحب السمات المتميزة بالحمق و(التَّبُوهِيلْ)، ثم قال: بَاغِي ابْحَالْ هذا… في إشارة إلى الهاتف الذي بين يدي…كنت متيقنا أنه أُعجب بالتلفة التي يعيشها العقلاء من شدة حمقهم بالحداثة (البعدية)، وهم باتوا في غفلة من أمرهم في الطرقات يكلمون أنفسهم بأنفسهم !!! من خلال آلة تقتل العواطف الوجودية الذكية، وتزيد الروابط الاجتماعية تفككا.
سألته: اشِنُوا هَا دِيرِ به؟ تحرك من مكانه قافزا، ورفع رأسه وبدأ يتبختر سيرا أمامي وهو يُكلمُ ذاته، و يتفوه ببضع كلمات غالبيتها لم أفهم مغزاه تماما، لكن بحق شدتني كلمة واحدة حين قال: ألو مِي…فِينْكِ…باغيكْ أَأُمِي… حقيقة لم أتمالك شعوري، وأنا أنظر إليه وأتفحص شبابه الذي يضيع عنوة، ويزيد تضييعه بمنشاط روحية سامة… نظرت متأملا حاضره في غياب تواجد أمه فيما تبقى من عقله… قرأت في ملامحه وعينيه حزنا دفينا ويتيما…كانت لغته دالة على أنه من أبناء الجبل الحاملين للكنة الازدواجية بين اللغة الأم الأمازيغية، واللغة المكتسبة العربية (الدارجة).
حين أحس أني لا أقدر على أن أمنحه هاتفي، وتيقن أن الهاتف بالنسبة لي بات مثل قيمة الدرهم الذي قتل الصوفي الحلاج علانية !!! طلب منِّي درهما يتيما، وحين ناولته إياه و بزيادة … بدأ ينصرف بخطوات متراجعا إلى الوراء، ويزيد من الدعوات (الله يرحم ليك الوالدين)… ثم قال: لا عليك هنا ملعب الحياة ثم حمل (كُمِشَةَ) تراب من حديقة الحب ووضعها في جيبه… ولِي باغي يتقرجْ على وليدات الشعب، يأتي ليلا ثم يقتفي غياب العقل، ونبوغ الحمق بغابة اللاحب بمكناس.