آخر الأحداث

إقصاء المثقفين وتداعياته على السياسة والثقافة في المغرب

هيئة التحرير4 يناير 202510 مشاهدة
إقصاء المثقفين وتداعياته على السياسة والثقافة في المغرب

ذ.رشيد عوبدة

السبت 04 يناير 2025 – 13:16

يشعر الكثيرون بامتعاض عميق إزاء غياب مفكرين من طراز محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وهو غياب يعكس اختلالا خطيرا في العلاقة بين الفعل الثقافي والفعل السياسي. فقد تخلت الأحزاب التي كانت دوما حاضنة للمشاريع الفكرية الكبرى عن هذا الدور لصالح هوس اللحظة الانتخابية، بينما تبدو الأحزاب الجديدة عاجزة عن تقديم رؤية ثقافية متماسكة تستوعب متغيرات العصر أو تواكب التحديات الراهنة.
في السياق المغربي، نجد أن العديد من الأحزاب، سواء كانت تقليدية أو حديثة، لم تعد قادرة على إنتاج مفكرين حقيقيين قادرين على تحديد المسارات المستقبلية للأمة. كما تركز هذه الأحزاب بشكل أكبر على التموقع السياسي بدلا من تطوير مشاريع فكرية استراتيجية، مما يساهم في إضعاف العلاقة بين السياسة والثقافة.
هذا التوجه يعكس انشغال الأحزاب السياسية بإغراق التنظيمات الحزبية ب”الكائنات الانتخابية”، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل فرص المثقفين في لعب دور محوري داخل هذه المؤسسات. إذ لم يعد هناك اهتمام بالكفاءات والأفكار الاستراتيجية بقدر ما أصبح التركيز منصبا على جذب الأعضاء لضمان الحضور الانتخابي. وبذلك تراجعت النقاشات الفكرية المتعمقة لصالح نقاشات تفتقر إلى الجوهر، ليحل مكانها خطاب سطحي يتغذى على الحسابات الانتخابية الضيقة. هذه المقاربة العددية، التي تعتمد على رفع الحضور الجماهيري في المؤسسات السياسية، تضعف جودة المخرجات السياسية وتساهم في ترسيخ الهيمنة الشعبوية التي تؤثر سلبا على القضايا الجوهرية للبلاد.
وإذا نظرنا إلى واقع المؤسسات المنتخبة في المغرب، نجد أنها لو كانت تضم مثقفين حقيقيين، لكان المشهد السياسي مختلفا تماما عما هو عليه الحال الآن. فوجود المفكرين في الأحزاب السياسية يوفر عمقا ورؤية استراتيجية تساهم في توجيه السياسات العامة بعيدا عن الانشغالات الشعبية اللحظية. هذا الفراغ الذي نتج عن غياب المثقفين يخلق مجالا خصبا للغوغائية والطابع الشعبوي الذي يسيطر على العديد من النقاشات السياسية اليوم.
إن غياب الفكر النقدي يعزز من بروز خطاب سطحي، ينطوي على التلاعب بالعواطف والشعارات الطائشة، مما يساهم في فقدان الثقة في المؤسسات السياسية لدى المواطنين.
وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين المثقفين الذين يعرفهم الجميع باسم “أهل الثقة”، وهم أولئك الذين يعملون في الخفاء لصالح الوطن، ويقدمون استشارات وأفكارا استراتيجية بعيدا عن الأضواء. هؤلاء يساهمون في توجيه القرارات بشكل ناضج وعميق بعيدا عن الأجندات السياسية الضيقة. وفي المقابل، هناك فئة أخرى من المثقفين الذين يخرجون إلى منصات التواصل الاجتماعي، مستهدفين مكاسب سريعة، ويقدمون خطابا يفتقر إلى التماسك والعمق الفكري. هذا الفارق بين الطرفين لا يقتصر على المستوى الفكري فحسب، بل يشمل أيضا الرؤية الاستراتيجية التي يحملها كل طرف. فبينما يسهم المثقفون الحقيقيون في بناء سياسات متكاملة، يقتصر البعض الآخر على تقديم آراء عابرة تفتقد إلى التحليل المتأني.
إلى جانب هذه الظاهرة الفكرية، يواجه المغرب تحديا آخر يتمثل في تزايد ظاهرة “التسويق الشخصي” في المجال السياسي؛ فقد أصبحت العديد من القيادات السياسية تروج لأسمائها وصورها عبر منصات الإعلام الاجتماعي دون تقديم محتوى فكري أو سياسات ذات عمق. هذه الظاهرة تسهم في تشويه الصورة العامة للسياسة، حيث يسيطر الخطاب المظهري على حساب النقاش الجاد والمساهمة الحقيقية في اتخاذ القرار.
وأما في السياق الاقتصادي، فإن سيطرة رجال المال والأعمال على قطاعات ثقافية كانت في الأساس مشاتل للفكر والقيم، قد فاقمت من هذا الوضع. فقد أصبح التوجه الربحي هو السائد في العديد من هذه القطاعات التي كانت تشكل ركيزة من ركائز الثقافة الوطنية. هذا التحول يتجلى بوضوح في قطاع الإعلام والفن والمسرح…، حيث يتم التركيز على المحتوى الترفيهي السطحي الذي لا يضيف أي قيمة ثقافية أو اجتماعية. فمثلا، نجد أن القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية أصبحت تركز على تقديم برامج ترفيهية تجذب أكبر عدد من المشاهدين بغض النظر عن أي قيمة فكرية. كما أن قطاع النشر لم يخل من هذا التأثير، حيث أصبحت دور النشر تروج لكتب تتسم بالطابع التجاري البحت على حساب الأفكار الإبداعية والنقدية.
إن إقصاء المثقفين لا يقتصر فقط على الأحزاب السياسية، بل يمتد ليشمل أيضا قطاعات الثقافة والإعلام، التي كانت تساهم في بناء الوعي الثقافي والفكري. ومع ذلك، نجد أن هناك بعض الأسماء التي لا تزال تحتفظ بمكانة بارزة في الساحة الفكرية المغربية، مثل حسن أوريد وعبد الله ساعف، عبد الصمد الديالمي ومحمد الطوزي … الذين قدموا إسهامات فكرية هامة في مجالات السياسة والفكر وعلم الاجتماع. لكن، في ظل تراجع دور المثقفين داخل المؤسسات السياسية، أصبح تأثير هؤلاء المفكرين محدودا في تحديد مسار البلاد.
وتعد هذه الظاهرة، التي تتمثل في غياب المثقفين وتراجع دورهم في السياسة، سمة مشتركة بين العديد من الدول العربية. ففي مصر وسوريا، على سبيل المثال، أدت الأوضاع السياسية إلى تهميش الفكر النقدي والتضييق على النخب المثقفة وظهور خطاب ثقافي يشوبه الطابع الشعبوي. أما في تونس، فقد شهدت الساحة الثقافية نوعا من الانفتاح عقب ما سمي “ثورة”، إلا أن التأثير السياسي للمثقفين ما زال بعيدا عن تأثيرهم السابق. خصوصا وان البلد حاليا يعرف تضييقا غير مسبوق.
وفي المقابل، نجد أن الوضع في العديد من الدول الأوروبية والأمريكية يشهد حضورا مستمرا للفكر النقدي في الحياة السياسية: ففي فرنسا، على سبيل المثال، لا يزال المفكرون مثل ميشيل فوكو وبيير بورديو وإدغار موران و كلود ليفي ستراوس …يحتفظون بتأثيرهم الواضح في تشكيل السياسات العامة. وفي الولايات المتحدة، كان نعوم تشومسكي من أبرز المفكرين الذين أسهموا في بناء خطاب نقدي يواجه القضايا السياسية والاجتماعية.
إذا أردنا أن نتفادى الفشل الذريع في السياسات العمومية في المغرب وغيره من الدول العربية، يجب أن نعيد الاعتبار للفكر النقدي، وأن نمنح المثقفين دورهم المحوري في توجيه القرارات السياسية. إن استعادة دور المثقفين في السياسة، وتحقيق الانفتاح الثقافي، سيسهم بشكل كبير في تعزيز جودة القرار السياسي ومواكبة التحديات الثقافية والاجتماعية. فالاهتمام بالفعل الثقافي والفكري يمكن أن يصنع أجيالا محبة لوطنها، ساعية إلى تنميته وخدمته واستقراره. إن تشكيل الأجيال لا يقتصر على الرياضة والفن الماجن أو مواقع التواصل الاجتماعي غير المراقبة…، بل يتحقق من خلال الثقافة ايضا والتي تساهم في بناء مجتمع متماسك وواع بالقيم الفكرية، مما يعزز نهضة حقيقية بعيدا عن الانشغالات الترفيهية السطحية.