العميد حسن المولوع
الخميس 27 فبراير 2025 – 15:01
القضية لم تنتهِ عند عودة عبد الإله، بائع السمك، إلى نشاطه التجاري، بل تبدأ بالسؤال الجوهري وهو لماذا أُغلق محله في المقام الأول؟ ولماذا شُنّت عليه حملة إعلامية مسعورة، قادها موقع إلكتروني طالما ادّعى أنه “قناة الشعب”، فإذا به يصطف مع الطغيان ضد واحد من أبناء هذا الشعب؟ إذ كيف تحوّل شاب بسيط إلى هدف للتحقير والتسفيه في منصات التفاهة؟ فهل أصبح من يجرؤ على قول الحقيقة خطيرا إلى هذا الحد؟
في هذا السياق، لا بد من ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ لا يمكن أن يمر هذا الأمر بلا مساءلة…
ف من أصدر قرار إغلاق محل هذا الشاب؟ ولماذا؟ وما تعليله القانوني لهذا الإجراء؟ ولماذا لم يُكشف عن السبب قبل أن يتدخل الوالي لاحتواء الموقف؟ هل كان الهدف هو إعادة إنتاج سيناريو محسن فكري عبر إثارة الفتنة بالاستعانة بذلك الموقع الإلكتروني، ثم، بعدما تقع الواقعة، يخرج هذا الموقع مدعيًا أنه يدافع عن الوطن، وأن من خرجوا إلى الشارع هم أعداؤه؟ لقد أصبحت هذه اللعبة مكشوفة، وحان الوقت لوضع النقاط على الحروف…
في هذا البلد، حيث يُفترض أن تُربط المسؤولية بالمحاسبة، لا نجد سوى فوضى تتكرر، وكأننا ندور في حلقة مفرغة. الأسعار تشتعل، والوسطاء يقتاتون من جيوب الفقراء، والاحتكار ينهش قوت البسطاء، لكن حين يقرر شاب أن يصرخ بالحقيقة، يُضيق عليه، ويُحاصر، ثم يُقدَّم لقمة سائغة لمنابر إعلامية رخيصة تتفنن في اغتيال الشخصيات المعنوية وتضليل الرأي العام…
فما الهدف من كل هذا؟ هل كان المقصود إعادة إنتاج سيناريو محسن فكري، لكن بنسخة أكثر خبثًا؟ وهل كان هذا الموقع، الذي يتاجر باسم الشعب، يسعى عمدا لإثارة الفتنة وتأجيج النعرات، ثم الادعاء لاحقا أنه يحمي الوطن، وأن من يخرجون إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم هم “أعداء الوطن”؟ أي مسرحية رديئة هذه، وأي جمهور يُفترض أن يصدّق هذه الأساليب الرخيصة التي اضحت مكشوفة ؟
إن الشاب عبد الإله لم يأتِ بجديد، ولم يفجر فضيحة مخفية، فالكل يعلم أن هناك مافيات تتحكم في الأسواق، وتجارًا يقتاتون من عرق الكادحين. لكنه امتلك ما نفتقده جميعًا: الشجاعة…
لقد نطق جهرا بما نهمس به جميعنا سرًا، وواجه منظومة الفساد بوجه مكشوف، بينما توارينا خلف صمتنا.. لم يكن هذا الشاب مجرد بائع سمك، بل مرآة عكست جبننا الجماعي، وخضوعنا الطوعي، وعجزنا عن مواجهة الاستبداد الاقتصادي الذي يخنقنا كل يوم…
إن ما حدث لهذا الشاب ليس مجرد حادثة عابرة، بل انعكاس لأزمة سياسية واجتماعية متجذرة، أزمة لم تعد تنفع معها المسكنات ولا الشعارات الفارغة. فهذه ليست أخطاء عشوائية، بل قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة…
ألم نتعلم شيئًا من درس تونس؟ ألم نستوعب أسباب اندلاع حراك الريف؟ متى سيفهم أصحاب القرار أن سياسات القمع، والترهيب، والاحتواء الإعلامي لم تعد تجدي نفعًا، وأن الشعب، مهما صمت، لن يظل أبكمًا إلى الأبد؟
لقد كشف عبد الإله زيف الخطابات الرسمية، وأظهر أن الأحزاب تخشى الشباب لأنهم لا يشترون الوهم ولا يبيعون أصواتهم، وأن الحكومة لا تحتاج إلى رصاص لتقتل شعبها، فالتجويع، والتفقير، والإذلال كفيلة بذلك.
إنها ليست قصة بائع سمك، بل قصة وطن بأكمله، يصرّ مسؤولوه على إنكار الواقع، حتى يأتي اليوم الذي لا يجدون فيه مهربًا من الحقيقة.