“العمل طريق الكرامة… لكن عندنا، الأجر لا يكفي لقطع المسافة”

هيئة التحرير13 ديسمبر 202548 مشاهدة
“العمل طريق الكرامة… لكن عندنا، الأجر لا يكفي لقطع المسافة”

قلم ياسر اليعقوبي

السبت 13 دجنبر 2025 – 15:11

يحدث في المغرب أن يتحوّل النقاش حول الأجور إلى مرآةٍ تعكس شكل العيش ذاته، لا مجرد أرقام تُدرج في تقارير الميزانيات.
فالمغربي، وهو يواجه يوماً بعد يوم قسوة الارتفاع المستمر في تكاليف الحياة، لا يبحث عن راتبٍ نهاية الشهر بقدر ما يبحث عن صيغة وجود تحمي كرامته داخل مجتمع تتسع فيه الهوّة بين الدخل والضروريات الأساسية. ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذه الهوّة أنها ليست اقتصادية فقط، بل جغرافية أيضاً. فالأجر الذي قد يسمح بالحياة في مدينة صغيرة داخل الأطلس أو الشمال أو الشرق، يتحول إلى رقم بلا ظل في الدار البيضاء أو مراكش أو طنجة، حيث ترتفع أسعار السكن والغذاء والنقل بنسب تجعل المسافة بين الراتب والعيش أكبر من المسافة بين المدن نفسها. وهكذا تصبح الجغرافيا عاملاً يعيد تشكيل العدالة، ويحدد في كثير من الأحيان قدرة الناس على الاستمرار بكرامة.

الأرقام الرسمية بدورها تضيف طبقة أخرى من التعقيد. فمتوسط الأجر المصرَّح به في القطاع الخاص لا يتجاوز حوالي ثلاثة آلاف درهم، فيما يصل متوسط الأجر في الوظيفة العمومية إلى حوالي ثمانية آلاف درهم مع فوارق واسعة بين الأسلاك. نصف الأجراء تقريباً لا يبلغ دخلهم ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم، في حين أن كلفة سلة غذائية أساسية لأسرة صغيرة تتجاوز في كثير من المدن أربعة آلاف درهم، بينما ارتفعت أسعار السكن خلال السنوات الأخيرة بما بين ثلاثين وخمس وخمسين في المائة حسب الجهة، وتزايدت تكاليف النقل والغذاء بما يقارب الثمانية عشر في المائة. أمام هذه المعطيات يصبح الحديث عن الأجر مجرد فصل صغير في قصة أكبر، قصة تتعلق بمدى قدرة المغربي على ملاحقة إيقاع الحياة المتسارع.

ومع ضيق الأفق واحتدام الغلاء، يظل القطاع غير المهيكل لاعباً مركزياً يبتلع ما بين ثلث الاقتصاد الوطني تقريباً، ويشتغل بمنطق الضرورة، لا بمنطق القانون. يوفر دخلاً سريعاً لكنه لا يمنح حماية اجتماعية، ولا انتماء اقتصادياً، ولا أي إحساس بالأمان. إنه فضاء يعيش فيه الناس “نهار بنهار”، حيث يصبح البقاء أهم من الكفاءة، والارتجال أهم من التخطيط، والنجاة اليومية بديلاً عن الطموح. وهنا، في هذا الفضاء الرمادي، تتولد مسارات هامشية من قبيل تجارة الممنوعات والدعارة السرية والرشوة الصغيرة التي تتحول ببطء إلى ثقافة، لا لأن الناس بلا قيم، بل لأن الشرط المعيشي الذي يُفقد الإنسان يقينه.. يُفقده في ذات الوقت استقامته.

لكن القول بأن المغربي يفتقر إلى أخلاق العمل غير دقيق إطلاقاً. فالقيم المغربية الأصيلة كالنية، المعقول، المروءة، احترام “الطعام”، الحياء، الغش “حشومة و حرام”، ونخوة الخدمة، ليست زخارف ثقافية، بل رأسمال اجتماعي حقيقي يظهر بمجرد أن تتوفر بيئة تحمي من يلتزم بها.
المغربي الذي يُتَّهم بالتكاسل في بلده هو نفسه الذي يصبح مثالاً للانضباط حين يسافر إلى أوروبا أو الخليج، وحين يجد قانوناً واضحاً ومؤسسة تحترم جهده. يكفي أن نرى العامل الذي يستيقظ قبل الفجر في الضيعات، أو البنّاء الذي يقضي عشر ساعات تحت الشمس، أو المستخدم الذي يشتغل أسابيع بلا عطلة، لنعرف أن المشكلة ليست في الإنسان… بل في الشروط التي نضعه داخلها.

وحين نضع التجربة المغربية في مقارنة عادلة مع دول مثل البرتغال وتركيا وماليزيا، سنكتشف أن هذه الدول لم تكن أغنى منا دائماً، لكنها امتلكت شيئاً أساسياً:
القدرة على تنظيم الفوضى.
فكلما ضُبط الاقتصاد غير المهيكل، وتراجعت الرشوة، وارتفع الحد الأدنى للأجر تدريجياً، تحسن الشعور بالإنصاف، وازدادت الثقة في الدولة. فالمواطن لا يبحث عن أجر مرتفع… بل عن أجر عادل يعكس جهده، ويحترم ظروف مدينته، ويمنحه الإحساس بأن الأفق مفتوح لا مغلق و يعطيه الحق في الحلم و بصيصا من الأمل.

ولهذا يتحول سؤال الأجر عندنا إلى سؤال عن المردودية.
هل العامل المغربي غير منتج؟
هل المقاول يستغل؟
هل القطاع العام مترهّل؟
الحقيقة أن المردودية ليست صفة فردية، بل نتيجة منظومة كاملة.
العامل الذي يشتغل في خوف لا يمكنه أن يكون منتجاً، والموظف المحاصر بأنظمة تقليدية لا يمكنه أن يكون فعالاً، والمقاول الذي ينافس قطاعاً غير مهيكل معفى تماماً من الضرائب لا يمكنه رفع الأجور بسهولة، حتى لو أراد ذلك.

العدالة الاقتصادية ليست اعلان نوايا بل رغبة حقيقية من خلال الفعل و البناء المؤسساتي.

ولا غرابة أن يعتبر آدم سميث الأجر العادل شرطاً للسلم الاجتماعي، وأن يؤكد جون رولز أن العدالة أساس شرعية الدولة، وأن يذكّر ماكس فيبر بأن أخلاق العمل لا تنمو إلا في بيئة تحمي من يلتزم بها.
فالنزاهة نفسها تحتاج بيئة تحميها، ونظافة اليد لا تكون فضيلة فردية إلا حين تصبح أيضاً سياسة عمومية.

اليوم نقف أمام ظاهرة معقدة…
إما أن يتحول النقاش حول الأجور إلى نقاش وطني حول شكل النموذج الاقتصادي الذي نريده، ونوع المجتمع الذي نستحقه، وطريقة توزيع الفرص بين الجهات والمدن والطبقات، وإما أن يبقى مجرد جدل بين القطاعين العام والخاص، بينما يواصل القطاع غير المهيكل إعادة كتابة قواعد اللعبة.

لسنا بحاجة إلى أجور أوروبية، نحن فقط بحاجة إلى أجور يمكن أن تُبنى عليها حياة.
بحاجة إلى قطاع خاص يرى في الإنسان قيمة لا كلفة، وإلى قطاع عام أكثر رشاقة وإبداعاً، وإلى دولة تحمي المنافسة الشريفة وتضمن أن يكون الاختلاف بين المدن اختلاف جماليات لا اختلاف كرامات. وبحاجة، قبل كل شيء، إلى إعادة الاعتبار لفكرة بسيطة:

العمل هو الطريق الوحيد للكرامة… بشرط أن يكون الأجر جسراً نحو حياة نظيفة من القلق، ونظيفة من الحاجة، ونظيفة من كل ما قد يلوّث اليد قبل أن يلوّث الضمير.