عادل بن الحبيب
الجمعة 05 دجنبر 2025 – 20:06
في أول تصريح بعد خروجه من السجن، قال الفنان حمزة الفيلالي جملة صادمة “الثقة جريمة”. قد تبدو الجملة مبالغا فيها، لكنها في الحقيقة مرآة لواقع أصبح فيه منح الثقة عملا أقرب إلى المغامرة منه إلى الفضيلة. صرنا نعيش في زمن يكاد الإنسان فيه يدفع ثمن حسن نيته أكثر مما يدفع ثمن أخطائه. وكلما صدق أحدهم شخصا، أو اطمأن إلى وعد، أو سلم وثيقة بحسن نية، اكتشف أن الطريق إلى المشاكل غالبا يبدأ من لحظة طيبة واحدة.
الأمثلة اليوم أكثر من أن تعد. شخص يوقع شيك ضمان فيتحول إلى متهم. آخر يمنح وكالة لقريب، فيستيقظ ليجد ممتلكاته بيعت كأنها لم تكن. شريك يضع ثقته في صديقه في تجارة، فيخرج منها خاسرا ومتابعا. شخص يتحدث إلى قريب له في الهاتف بكل ثقة و يتفاجأ ان كل شئ تم تسجيله ونشره. زوجة تأتمن صديقتها على بيتها فتأخذ البيت و الزوج. شخص يقرض صديقه مبلغ مالي دون وثيقة فيفقد المال و الصديق. خطيبة ترسل صور لخطيبها بحسن نية فيبتزها و يسلبها مالها . اب وام يضعان اطفالهما في عهدة قريب او صديق او جار و تكون النتيجة كارثية اغتصاب براءتهم و تعنيفهم.مواطن يضع ثقته في منتخب أملا في من يدافع عن صوته ليفاجأ أحيانا بأن هذا الصوت صار مجرد صدى بعيد وسط حسابات الكراسي و المصالح و الامتيازات. و الأمثلة كثيرة و غريبة و صادمة و لا يمكن حصرها.
لم تعد الثقة بريئة كما كانت. المجتمع تغير، والعلاقات تغيرت، والناس لم يعودوا كما كانوا. اليوم يمكن أن يؤدي توقيع صغير، أو كلمة طيبة، أو تنازل بسيط إلى تدمير حياة بأكملها. أصبحنا نعيش في زمن تتعايش فيه الوجوه الهادئة مع النيات الخفية، والابتسامات مع الحسابات الدقيقة. ومن يثق بسهولة اليوم يشبه من يترك باب منزله مفتوحا في حي يعرف جيدا ان لصوصه لا ينامون.
لكن الأخطر من ذلك أن كثيرا من الناس ما زالوا يخلطون بين الثقة والسذاجة. يعتقدون أن الطيبة تحميهم، وأن النوايا الحسنة تكفي. وينسون أن القانون لا يعترف بالنوايا، بل بالأدلة و الحجج. وأن القضاء لا يحكم بالنيات، بل بالدلائل و ان القانون لا يحمي المغفلين. وأن المجتمع لا يرحم من يخطئ بحسن نية
ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يعيش بلا ثقة. لكن يجب أن نكون صريحين، الثقة اليوم أصبحت رفاهية لا تمنح إلا بعد اختبار طويل. لم تعد تعطى بالقلب وحده، بل بالعقل أولا. لم تعد تمنح لصديق لأنه صديق، ولا لقريب لأنه قريب، ولا لشريك لأنه يبتسم. إنها أصبحت عملية معقدة تحتاج إلى وعي، إلى حذر، إلى وضع حدود واضحة. الثقة يجب أن تكون مثل مفتاح بيتك،لا تعطيه لأي أحد، ولا تتركه في أي مكان، ولا تسلمه لشخص لا تعرف ماذا يمكن أن يفعل به.
في هذا الزمن، الثقة ليست جريمة ، لكن الثقة العمياء جريمة في حق نفسك. والمصيبة ليست في أن تخدعك الحياة، بل أن تخدعك طيبتك. والحكمة ليست في أن تتوقف عن الثقة، بل في ألا تجعل قلبك يقودك وحده. ما نحتاجه اليوم هو ثقة محسوبة، نثق لكن بتحفظ و حكمة .الثقة التي لا تتوفر فيها ثلاثة شروط تتحول إلى خطر، الوضوح، التوثيق، والتدرج. الوضوح في فهم ما تتفق عليه، التوثيق حتى لا تضيع حقوقك، والتدرج حتى تختبر الشخص قبل أن تمنحه مفاتيح حياتك. أما الثقة العمياء، فهي أشبه بعبور طريق سريع معصوب العينين.
ربما كانت جملة الفنان صادمة، لكنها ليست خاطئة. لأن الواقع اليوم يعلم الجميع الدرس نفسه، لا تمنح ثقتك إلا لمن يستحقها، ولا تصدق الكلام دون دليل، ولا تضع نفسك في مواقف تجعل حسن نيتك تتحول إلى سلاح ضدك. فالثقة قيمة عظيمة، لكن زمن العفوية انتهى. ومن لا يحمي نفسه، سيكتشف أن الثقة قد تكون فعلا أقرب شيء إلى الجريمة… ولكن جريمة يرتكبها الإنسان في حق نفسه جريمة يعاقب عليها الزمن قبل القانون .




