محسن الأكرمين.
الاثنين 18 نونبر 2024 – 21:01
في بسمة من الحياة الغيبية الآتية، والتي بعيدة عند متوالية فصول الزمن، كانت تحكي عن ماضيها الصغير والفسيح بالمتناقضات والأضداد المتنافرة. لم يعر مناد العز أمر سردها انتباها ، بل كان يتابع سكناتها التَّأوهيَّة بعد نهاية كلمات الإفصاح بالبيان والتبيين. في تلك الحلقة الشبابية القريبة منه بتنوع الأعمار والجنس، كان يطفو بالمَرَّات العديدة الصمت، ويسود الإنصات بفراغ زوايا الحديقة من حشر الزوار الوافدين، و مرات أخرى تسمع لجموع ضحكات متقطعة بالتموج العددي.
كل الوجوه تتشابه بالتوافد على قاموس الذكريات الكثيفة عند مناد العز، وفي كل لحظة يودُّ مُجاورات التفكير فوق ذاك المقعد الوحيد والمتعب، كان يتفحص ركض الجري السريع لمستويات الحياة الإنسانية، وحينا آخر التبختر المفرط في الأبهة الاجتماعية. عند افتتاحية الجريدة المفضلة عند مناد العز، والتي كان مُدمنا على مطالعة صفحاتها الكلية، ويتأبطها عند نهاية كل أسبوع بالقراءة، والفرك المعرفي للأحداث. أثار انتباهه نتائج الإحصاء العام للسكنى والسكان، والتي جاء مخالفة لكل توقعات النمو الديموغرافي المغربي. ابتسم للخبر، وبات يوزع ملاحظاته على مستويات فحش الغلاء، وفشل سياسة المغرب الأخضر، حتى بات الوطن يستورد الضروريات من اللحم والبيض والحيوانات، وفقد صيرورة استدامة الأمن الغذائي.
بدأ تجمع الأبدان في الحديقة يقل في المشي والإياب، وبات المكان يسترجع سكونية الأشجار، وحفيف الخريف الظليل، وصمت صوت الطيور. حين كانت نظرات مناد العز أعمق من المكان الخامل، رآها وقد باتت وحيدة، وأنهكتها انشغالاتها الذاتية بعد أن انفض الجمع تشتتا. أثارت انتباهه المتراكم بكم همِّ الحياة، وترك جريدته تُجاوره في المقعد الوحيد بالانزواء.
في عمق المكان تسلل حدس مناد العز خلسة إلى قلبها وتفكيرها الوجودي. فتش بالتأني المملِّ عند صفحات دفاتر ذكرياتها الماضية، ومن حسن حظ الطالع أنها كانت تماثله القد، وتنتشي بالوحدة، وتجدد طاقتها الشعورية بمساءلة السماء. من بعيد تكهن على متنوع سلوكها المتنوع بالمشكلات الحياتية، وتلك المساحة التي تنفض فيها سلبيات أيامها اللواحق. رأى مناد العز أن حضورها بذات الحديقة كان يزاوج رمي المتاعب والآهات، وجل مشكلات العالقة في نفس سلة مهملات الزمن المتغير، وتنشق منشطات حياة إيجابية.
عند تناظرهما بالتكرار في الزمان والمكان ابتسمت، وعندها نزعت عن عينيها النظارة الشمسية، وحركت تموج شعرها البني بلطف. كان أجمل تناظر من متابعة أُفول شمس ذاك اليوم النير، وبلا غيوم سماء !!! لم يعد يقدر مناد العز على ممارسة صمت الحكمة، ولا مداومة قراءة نتائج عدد السكان النازل بالشيخوخة. لم يعد يسند ظهره بالتكاسل على المقعد المتحجر، بل حول دائرة مشاهدته الكلية نحوها بالتفحص والتأمل.
كانت أشجع منه حين استوت قياما، وهي تتجه في مسار تواجده ترجلا مستقيما. لم يكن جسمها بالمكتنز، ولا بالنحافة الموغلة في الحمية الغذائية، بل كانت رشيقة تماثل لاعبات القفز العلوي. حين اقتربت من مكانه، رميتنه بالسلام والتحية، وببسمة نيرة أخمدت تلتفته المستديمة في بؤر متاعب همِّ الحياة. من حسن حظه الطالع ذاك اليوم لم يمارس مناد العز دور الأصم ولا الأبكم ولا حتى الغافل الغبي، بل قام من مكانه احتراما، وناولها ترحابا مفرطا في العرف الاجتماعي، وهو ينتزع برفق نظارته الطبية في مشهد يماثل أدوار ممثلي الأفلام الأمريكية.
دعاها بلطف في جولة تقتفي فيها مخزونات الحديقة، والتي حتى ذاته لم تقدر يوما على كشف ممراتها ودواخلها الفسيحة. لم تمانع البتة، وانطلقا بحديث متحفظ، وبحنان أنثوي: أنا اسمي تالا.
نظر مناد العز بالتقايس في عينيها، مرحبا بنجمة الصباح الباقية من فجر الغسق الغامض. فقد كانت مميزة في هيبة الكلام، وملمح الابتسامة، وتجسد الجمال بلا مساحيق التلوين، وبلا تلك الفَنْطزةِ التافهة. لم يتمالك مناد العز نفسه بالإنشغال بعينيها استكشافا، ونطق اسمه بالتدرج وكأنه يمارس التقطيع اللساني للغة، أنا اسمي (مـــنـــاد العـــز)، شدت على يديه اليمنى برفق الحرارة، وقالت: تشرفت بمعرفتك يا مناد….