محسن الأكرمين.
الخميس 07 غشت 2025 -22:10
كنت في نشوة من أمري في تلك الزيارة الخفيفة لمدينة الرباط، فصاح بي صاحبي الذي لا يترحل بين المدن المغربية كثيرا (شِي عَايَشْ وشِي امْعَلَقْ في التنمية) !!! فقلت له بغباء الرفقة المحبة للاختصار: عمَّا تتحدث يا هذا؟ نظر إلي بعلامات تعجب كثيرة !!! وأدوات الاستفهام ؟؟؟ رؤية حصينة منه، تحمل نوعا من الازدراء عن سؤال قد يكون من مستويات البلاهة العميقة، وقال: أحدثك عن الفرق بين وضعية مكناس التنموية الناكصة، ومدينة الأنوار الرباط التي أنجزت تنميها الريادية!!!
نظرت إليه بعين الجانب الأيسر وقلت له : من البديهيات فهي العاصمة والواجهة، ومدينة الحكم والفخامة، ثم تماديت في سرعة المشي والهرولة. من فطنته المتناهية أنه أدركني بنفس سرعتي، ورماني بسؤال آخر: وماذا عن المدن الأخرى الأكثر حظوة !!! توقفت عن السير وسط شارع الرياض الأنيق والغاص بالمتجولين من طينة اجتماعية أخرى ذات وجاهة وأبهة واستهلاكية مفرطة في الفكر البورجوازي، وقلت له: لماذا بالضبط الآن تريد أن تنغص عنِّي جزء من فرحتي بتواجدي بمدينة الأنوار والحدائق الغناء والأبهة ورباطات الأعنق؟
ابتسم، ولازم مكانه بغير حركة ثم قال: أعلم أنها مكناس التي تسكنك، وحضورها الذي يتبعك أينما حللت وارتحلت، هي المدينة الذي تحمل أجزاء من فرحتها وأقساطا من أنينها، ورؤية من سياسة تنميتها بلا إفراط في المثالية، لذا آثرت ملاحقتك بالسؤال، وعلى أن تضع لي وجه المقارنة بين مدينة السلاطين والرباط العاصمة. حينها، بدأت حروفي تتقطع في فمي من شدة التباعد الكبير في وجه المقارنة، والتلازم فيما قلَّ من أوجه التشابه التاريخي والحضاري.
اِعلم يا صاحب السفر أن الرباط عبرت مراحل التنمية بسرعة قطار (البراق)، ولم يُترك فيها أمر التنمية للسياسي الماكر والانتهازي بالمنافع !!! ولم تتردد يوما في اقتحام ولوجيات خانة المدن الذكية، ونيل حظوة سباق التمدن والتحديث. فالرباط مدينة الأنوار والبيئة الغناء، عاصمة المملكة، ووجهها المليح وبالضرورة القصوى، ويجب أن تكون كما هي أو أكثر بكثير من هذا. اِعلم يا صاحب السفر أن ملك البلاد يُدير شأن المملكة الشريفة منها، وهي تضم مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والتقريرية…، فما تَبْغِي من جمالها روعة، وكأنها باتت وردة تسر الناظرين والزائرين !!!
حين علم صاحب السفر تهربا حثيثا بالجدية من الحديث عن مكناس، قال: وماذا عن مدينك؟ كنَّا حينها نتوسط شارع الرياض الأنيق بوضعتيه البيئية الناعمة، ومحلاته التجارية والترفيهية التي تستهدف علية من القوم وبتراتبية الفئوية الاجتماعية. كنت أتمنى حقيقة ألا يضعني في هذا المأزق المستفز بالمباشر، وذاك الخيار بين (مدينة التنمية ومدينة اللاتنمية !!!) وكأنه يقول: تكلم…لا تقف مثل المسمار (فلا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار !!!). فقلت بأدب الرفقة والمكان المهذب، وسعة من القلب المطمئن: لا تيأس من التنمية ووضعيتها بمدينة السلاطين مكناس، فهي المدينة الوحيدة التي تماثل طائر (الفنيق) الأسطوري، والذي يستفيق حياة من رماده !!! لم يفهم مرموز غايتي، ولا كناية كلماتي، بل كان يريد لغة صريحة وبدون لغة خشب (رضوان الرمضاني).
انتفضت قولا على السياسيين، والسياسة بمدينة المتناقضات والفوضى في (القيل والقال)، والتراخي القديم في سياسة تنمية المدينة. انتفضت على كل من يريد تنميط الكلام والنقد المباح بمدينة الأحاجي (كُولْشي مَزْيانْ !!!) ولا يترك للاختلاف مجالا للتنفيس عن الذات المتهالك بذات المدينة. انتفضت وقلت له: مكناس مدينة تراث المملكة المادي العالمي، وتحتاج بالاستعجال إلى برامج تنموية كبرى من الدولة المركزية، وقدرا كبيرا من الاهتمام من طرف صناع القرار الحكومي (لا أقصد من يحمل ازداد بمكناس !!!) فهم في تقاعس تام !!! فحين تم إغفالها من عمليات تنظيم كأس العالم (2030) وغيره، فاعم بأن التنمية ستبقى حبيسة المتمنيات والمطالب والتسويفات… حتى حين دخول برنامج تنموي مولوي سامي لمدينة المولى إسماعيل من باب منصور العالمي.
لم أبق واقفا، بل صعد مني تأوها استرعى انتباه المارة، وأنا أتهاوى على كرسي أمام نافورة ماء تشتغل ليل نهار، ولم تتوقف يوما منذ أن عهدت شارع الرياض بالزيارات. جلس صاحبي ورفيقي في هذا السفر غير المخطط له بالسبق، وهو يرى تغيرا في ملامح وجهي، وفي نبرات كلماتي، ثم أدار الكلام نحو الفوارق الاجتماعية !!!
أحس لحظة أنه قطع عنِّي متعتي الليلية، ولو للحظات بهية وسريعة بهذا الشارع الفخم الأنيق. لم أُرِد حتى (أنا) أن أنغص عليه فضوله المتنامي والمتزايد، بل ابتسمت نحوه بفطرة صادقة وقلت : لا تخف على مدينة مكناس ستكون لها كلمتها في التنمية، فالملك (نصره الله) وجه خطابه بألاَّ يَسير المغرب بسرعتين سواء على مستوى المجالات الجهوية، أو على مستويات التباينات بين المدن ذاتها والقرى النائية والعميقة. سيكون لمكناس (إن شاء الله) حتى هي برنامج تنموي وطني يطلق عليه ( منارة قبة المولى إسماعيل العالية).