آخر الأحداث

ياسر اليعقوبي يكتب…العقليات أولاً… ثم التنمية نحو فهم جديد لصناعة التغيير

هيئة التحرير17 نوفمبر 202510 مشاهدة
ياسر اليعقوبي يكتب…العقليات أولاً… ثم التنمية نحو فهم جديد لصناعة التغيير

بقلم ياسر اليعقوبي

الاثنين 17 نونبر 2025 – 19:04

دعا جلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى ضرورة تغيير العقليات و أگد على أنها ليست مجرد دعوة عابرة أو توصية في سياق خطابي، بل إشارة عميقة إلى أن معركة التنمية في المغرب لم تعد ترتبط فقط بالموارد أو بالبرامج أو بالاستراتيجيات، بل بالإنسان الذي يصنعها، وبالذهنيات التي تقود تنفيذها.

ففي أكثر من خطاب ملكي سامي، جرى التأكيد على أن التحول التنموي لا يمكن أن يتحقق بعقليات قديمة، ولا بتصرفات إدارية وسياسية ما زالت أسيرة الماضي.

إن المغرب دخل مرحلة جديدة تتطلب فهماً جديداً، وتستلزم جيلاً مختلفاً من المسؤولين والمنتخبين والفاعلين الجمعويين، قادراً على كسر منطق الارتجال والريع والبيروقراطية، والتحرر من ثقافة انتظار التعليمات نحو ثقافة المبادرة والنجاعة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

لقد وضع جلالة الملك، بوضوح غير مسبوق، إصبعه على مكمن الخلل:

لا تنمية ممكنة دون تغيير حقيقي في العقليات التي تدير الشأن العام. وهذا الوعي الملكي يشكل اليوم نقطة الانطلاق لبناء جيل جديد من البرامج التنموية، قائم على الكفاءة، والواقعية، والالتقائية، والجرأة في الإنجاز.

فالتحدي لم يعد تقنياً فقط، بل ثقافياً وسلوكياً بالدرجة الأولى، وهو ما يفتح الباب لسؤال جوهري.

كيف ننتقل من عقلية إدارة المشاكل إلى عقلية صناعة الحلول؟

لم يعد النقاش حول التنمية في المغرب مجرد سجال موسمي يتجدد مع كل مبادرة أو لقاء، بل أصبح سؤالاً بنيوياً يمس جوهر العلاقة بين المواطن والدولة، ويفتح الباب أمام مساءلة الاختيارات الكبرى التي تحكم المسار العام. ومرة أخرى يعود الحديث عن التشارك، لكن بصيغ تُعيد إنتاج الإشكالات التي نبه إليها المفكرون منذ عقود. فكما قال عبد الله العروي: “الحداثة ليست قراراً سياسياً بل تحولاً في الذهنيات”، وهذا ما نفتقده حين يتحول التشاور إلى ممارسة شكلية تمنح انطباعاً بالحوار بينما تُقصي منطقه وروحه.

ما يجري اليوم لا يستند إلى منهجية واضحة أو أدوات معرفية تسمح بفهم الواقع.

من هاجسه أمني، لا يمكنه قيادة التنمية.

هي لقاءات تُدار بمنطق المناسبات، يُستدعى إليها المواطن دون إعداد، فيتحول النقاش إلى مزيج من الارتجال والشكاوى الشخصية، بعيداً عن أي تصور للتنمية المندمجة أو عن تحليل مجالي رصين. وقد نبّه محمد جسوس إلى أن “غياب التأطير هو أول حلقات إنتاج الهامشية”. فكيف ننتظر رأياً جماعياً ناضجاً في غياب هذا التأطير؟

يزداد المشهد تعقيداً عندما تُقدَّم أرقام ومعطيات غير دقيقة، يُخلط فيها بين ما هو وطني و ما هو جهوي و ما هو إقليمي ، وبين المشاريع المنجزة والمتعثرة، دون أي صرامة تقنية أو تحرٍّ علمي. وهنا تستعاد مقولة
أمارتيا سن: “لا يمكن إصلاح ما لا نفهم، ولا يمكن فهم ما لا نُقوّم”.
ولهذا تتحول بعض هذه اللقاءات إلى مهرجانات صوتية تُنتج صوراً أكثر مما تُنتج أفكاراً.

وراء هذا الارتباك يختبئ فساد بنيوي في منظومة التدبير العمومي؛ فساد لا يُختزل في الرشوة، بل يمتد إلى البيروقراطية المعطلة، وغياب المحاسبة، وتشتت المسؤوليات، وتغليب الحياد السلبي على الجرأة. يُبنى مستشفى دون معدات، ومدرسة بلا ماء، وطريق نحو منطقة خالية من النشاط الاقتصادي. وقد لخّص إدغار موران هذا الوضع بقوله: “أخطر ما يصيب الدولة الحديثة هو فقدان القدرة على الربط بين الأجزاء”. وهكذا أصبح غياب الالتقائية قاعدة تُنتج عدالة مجالية مختلة وصوراً لمغربين غير متكافئين و كما قال جلالة الملك، مغرب السرعتين.

ومن هنا تبرز ضرورة إحداث مؤسسة مستقلة للالتقائية داخل كل مجال ترابي، مؤسسة تعمل كعقل تقني واستراتيجي يقود التنسيق بين البرامج، ويتابع التنفيذ، ويقيس الأثر، ويُلزم المؤسسات بجدول زمني واضح. مؤسسة تمتلك سلطة التنسيق والتقييم والمساءلة التقنية، لا مجرد صلاحية التوصية.

ومع استمرار الأعطاب، يتآكل رأس المال الأهم: الثقة.
فعندما يشعر المواطن أن رأيه مجرد ديكور، وأن نتائج التشاور محسومة سلفاً، يصبح الحوار مجرد واجهة رمزية تُنتج إحباطاً مضاعفاً. يقول زيغمونت باومان: “الخطر ليس في غياب الثقة، بل في استهلاكها”.

تعثر التنمية في المغرب له جذور عميقة: تفكير مركزي يتناقض مع التنفس المحلي، جهوية متقدمة متعثرة، حكامة ضعيفة، كفاءات غائبة، ومنطق ولاءات يغلب على منطق القدرات. أما الإنسان، وهو جوهر التنمية، فما زال خارج المعادلة: شباب بلا أفق، كفاءات مُهملة، ومدرسة فقدت دورها في صناعة المستقبل. وقد قال المهدي المنجرة: “المستقبل يُصنع في المدرسة، لا في الاجتماعات”.

وتتعثر التنمية أيضاً لأن ثقافة الريع تتغلب على ثقافة الواجب والمحاسبة. فعندما لا يُحاسَب المقصر، ولا يُكافأ المجتهد، يصبح الفشل بلا تكلفة. لذا فإن الشفافية والاعتراف بالاختلالات شرط لأي إصلاح، والحاجة ملحة لمؤسسة مستقلة للمحاسبة المزدوجة تُتابع المشاريع، وتُنجز الجرد، وتربط المسؤولية فعلاً بالمحاسبة و بالأثر أي النتيجة، كما دعا جلالة الملك مراراً.

ولا يكتمل الإصلاح دون تحرير المجتمع المدني من هيمنة السياسي والإداري، ودون إصلاح الحقل الحزبي بقوانين تُقدم الكفاءة والانضباط والمصلحة العامة على الولاءات و الفئوية و السن والمصالح الضيقة. فالديمقراطية، كما قال الجابري، “لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين”، والديمقراطيون لا ينشأون في بيئة يغيب فيها التعليم الجيد وثقافة المواطنة.

وفي بعض المراحل، قد يكون مطلوباً أن تعود الدولة بقوة، ليس بمنطق السلطوية، بل بمنطق “دكتاتورية المصلحة العامة”: حزم عقلاني يضمن الانتقال نحو ديمقراطية اجتماعية ناضجة، حتى لو تطلّب ذلك إصلاحات مؤسساتية كبرى أو تغييرات دستورية. فالديمقراطية لا تزدهر فوق أرضية هشة.

إن المغرب ليس بلداً فقيراً، بل بلداً أتعبته الأعطاب الصغيرة، والترقيع، والبيروقراطية، والقرارات المتسرعة. ومع ذلك، يظل الأمل ممكناً. فعندما نُعيد الاعتبار للعقل والمؤسسة والإنسان، ونحاسب دون انتقائية، ونُصون المال العام كما لو كان مالاً خاصاً، يمكن أن نكتب فصلاً جديداً من قصة هذا الوطن. فصلاً يبدأ بالصحوة وينتهي بالنهوض… لأن التنمية ليست مشروعات إسمنت، بل مشروع إنسان قادر على بناء غده بكرامة وإبداع.