محسن الأكرمين.
الجمعة 04 نونبر 2022 – 16:23
قد نكون نطارد الشياطين باللعنة فقط، والبصق عليهم جميعا يسارا. قد تكون الشياطين لا تعير اهتماما لركام لعابنا المتدفق نحوهم منذ صغر السن وغياب عقل التميز. لكن بحياتنا الفردية والجماعية لَمْ نَلتقَ ملاكا مُتكامل الصفات والأوصاف. اعترافا، لم أكن يوما أكثر يقظة، إلا وأنا أخطو بممرات دروب مدينة الموت والأشباح. كنت حينها أمارس ترديد التعوذ وتلاوة التمائم بتحريك الشفاه المطبقات، وأنا بأرض تعتو فيها شياطين الإنس والجن وتتسيد استبداد وفسادا، ومرات عديدة كنت أقدم لهم الولاء والخضوع و(التسليم).
حين أنظم سيرا بمدينة الموتى، يصبح العقل يتذكر الصورة المعكوسة القديمة للمدينة، ويبيت التوجس عند العقل يماثل مرآة بابل الحديدية التي توشي بأفعال الغائب، وألاعيب الحاضر المختفي من وراء سُمْك الأسوار. في أغلب الأحيان كنت أحسب عقلي يوازن الحدث الجلل الذي قد يفزعني بالقلق، ويزعجوني بالإزاحة والهرولة. لحظتها وبحضور روحانية التفكير البدائي أرش عطر زنبقة العنكبوت الأحمر على جسدي الشاحب داخل المرآة، حتى أطارد وأقتل الشياطين المتربصة بعقلي وذاتي. كنت حينها أمارس طقوسا من التعاويذ خوفا من سارق الأرواح.
مدينة الموتى حتما تنظر في المرآة لتبدو جميلة في التاريخ القديم، وتحاول كشف المستقبل (بالعكار) الفاسي. مدينة الموتى قد تتقمص شكل ساحر شرير يطارد الناس ليس في تجويفات المرايا المقعرة، وإنما في لقمة حياتهم، ومعيشتهم اليومية. فحين تفيق المدينة لحياة التمكين، ستجد أن هنالك مرايا عادية تعكس الأشياء بشكلها الطبيعي، وبلا ازدواجية مربكة. قد يكون ما يثير الدهشة لدي دوما، ليس هو اهتمام الإنسان بالواقع ومحاولات ترشيد التغيير، وإنما موت الفرد في الخيال الأسطوري، ومحاولات اقتناص فرص الحظ العاثر ولو بالمكر. حقيقة قطعية لا مناص من ذكرها في مدينة الموتى، أن في أسفل أي محراب يوجد التاريخ، وتبدو فيه المدينة أكثر روعة مما هي في حاضرها.
في مرحلة من حياتي علمني أبي (رحمه الله) حكمة لازالت تلازمني. حكمة حين أهداني فَرْخَ صقر لا يطير. حين أمرني أن أجعله مطيعا يأتمر بأوامري، وينتهي بلاءات (صه وقف منعرجات قاتلة). لكن الصقر الصغير كان أذكى، كان مشاكسا متمردا، لم يقترب مني يوما رغم أني مارست معه كفايات من سلوك علم اجتماع الحيوانات، لكنه ظل أعزلا رافضا كل مناوراتي، ولا يوافق بتاتا حتى في صحبتي.
حتما، أخفقت تربية مع صقر الوالد (رحمه الله)، وكنت غير ما مرة أريد تطييره سماء، وأقول له (ارحل…ارحل…) بلا رجعة، لكني كنت أتردد خوفا في معاكسة أوامر الأب (رحمه الله) باعتبار الصقر أمانة بين يدي لأعلم سلوك سياسة الهرولة في الانبطاح. فكرت حيلة وأغريت الصقر بأن جعلت ذاتي الإنسانية تتقرب منه وتتودد مصاحبته، كنت أربت على ريشه الرمادي بيدي، حينها أحسَّ بالأمن والأمان ورفع من سومة منقاره عليا، ومن مشيته المتبخترة قدما. حين تكرر الوصال المتكرر بات الصقر الصغير لا يفارق حتى مرقدي. فرحت من النتيجة المبهرة، وبتْتُ مَزْهُوا لتقديم الصقر وما تعلمه للأب (رحمه الله) ونيل رضاه، ولما لا تقبيل يديه بابتسامته الصامتة والمعهودة. لكن ملاحظات الوالد (رحمه الله) أتت بما لم أكن أشتهيه، فقد قال لي بالحرف:(أمرتك أن تجعله شرسا ثم مطيعا، وبدلا من ذلك جعلته يحبك ويحتمي بك…).
بحق الصدمة كانت قوية، وأحس حتى الصقر بها، حين التف مُدْبرا، واحتمى بجسدي. نعم، تعلمت يومها الفرق بين تَسْييد الطاعة وقيمة الحب الإنساني. تعلمت أن الحب أصدق وفاء من تلك الطاعة العمياء بمدينة الموتى.