صدى المغرب – سعاد ايت اوعتاني – عدسة أيوب أوعكي
الخميس 18 شتنبر 2025 – 16:56
يعتبر المغرب بلد الثروات الخفية،ويتميز بتنوع جيولوجي هائل،ويملك مخزونا وافرا من المناجم المعدنية الغنية التي تنتج أطنانا من المعادن الثمينة منها الذهب – الفضة -الفوسفاط -النحاس -الرصاص-وغيرها، مما يجعله لاعبا مهما في الساحة التعدينية العالمية.
وتعد مدينة المناجم ميدلت، خاصة أحولي وميبلادن،من أهم المناطق المنجمية في المغرب تاريخياً،وقد استُغلت هذه المناجم لاستخراج معادن مثل الرصاص والنحاس والمواد المعدنية الثمينة مثل الفنادينيت والأحجار المستحثة، لكنها اليوم تعاني من الإهمال والتهميش.

وخلال تواجدنا بميدلت،سمحت لنا فرصة استكشاف المنطقة،التي لطالما سمعنا عنها الكثير من القصص منها المفرح و المحزن،وكان لنا رغبة شديدة في التعرف عليها عن قرب والاستمتاع بجمالية ما تزخر به من مناظر ومؤهلات طبيعية خلابة .
كما وقفنا عن كثب على حياة سكانها المليئة بالبساطة،ورغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجههم مازالوا صامدين ومتمسكين بأمل غد أفضل يمنحهم عيشا كريما ومستقبلا زاهرا يعود عليهم بالنفع، لاسيما وأن المنطقة تتوفر على خصائص متعددة أبرزها السياحة الجيولوجية والتعدين والفلاحة.

مناجم ميبلادن وأحولي …تاريخ طويل مع التعدين.
لطالما كانت مناجم ميبلادن وأحولي،صدى لحكاية الثروات المعدنية في المغرب،وعن مواردها الطبيعية الكثيرة التي جرى استثمارها عبر عقود، لكنها اليوم تثير جدلا كبيرا نظرا لوضعها المتردي بعد توقف الاستغلال الرسمي للمناجم، والمخاطر التي يواجهها السكان المحليون الذين ما زالوا يعتمدون على البحث العشوائي لكسب الرزق.
وقد تأسست مناجم ميبلادن وأحولي، أوائل القرن العشرين، على يد الفرنسيين وهي جزء من تراث الاستغلال المعدني في المنطقة،حيث استمر الإنتاج حتى انتفاء الجدوى الاقتصادية أو نفاد بعض المعادن، ليُعلن التوقف الرسمي عن الاستغلال في الثمانينات تقريبا.

وخلال عقود مضت مثلت مناجم ميبلادن واحولي، جزءا حيويا من صناعة التعدين في المغرب ،حيث وفرت هذه المناجم العديد من الفرص الاقتصادية للساكنة ولسكان الإقليم بصفة عامة ،وقد كان لهذا التعدين الفضل في إنشاء خط سككي حديدي أنشأه المستعمر خلال تلك الفترة(سنة 1920) لأول مرة بميدلت ويربطها بمدينة وجدة، لغرض نقل السلع التي كانت عبارة عن معادن ومعدات عسكرية آنذاك.
وتعتبر منطقة ميبلادن وأحولي واحدة من أكبر مناطق استخراج المعادن مثل النحاس الزنك والرصاص ، حيث تعتبر من المعادن الأساسية التي تستخدم في كثير من الصناعات، وعلى الرغم من عدم استخراجها بكميات كبيرة خلال السنوات الأخيرة ، الا أنها من أهم المعادن الأساسية التي اشتهرت بالمنطقة في الماضي .

وبعد توقف الشركات الكبرى، باتت مناجم ميبلادن وأحولي تستخدم من قبل المنقبين المحليين والأسر الفقيرة بالمنطقة،بغرض البحث عن المعادن و الأحجار الثمينة بطرق تقليدية، غالباً خارج أي إطار قانوني،هؤلاء المنقبون يغامرون بحياتهم نتيجة تعرضهم لمخاطر الانهيارات، سقوط الصخور، الاختناق، الحوادث الناجمة عن ضعف البنية داخل الأنفاق.
الوضع الراهن…بين الإهمال والبحث عن البقاء
في مدينة ميدلت،ترقد قائمة مناجم ميبلادن وأحولي كآثار دامية لتاريخ تعدين واستخراج المعادن في المغرب،حيث كانت تلك المناجم يوماً مصدر نهضة اقتصادية لساكنة المنطقة، لكن اليوم باتت شاهدة على تهاوي الأحلام، وضحايا يغامرون بحياتهم بحثاً عن لقمة العيش.
وعلى الرغم من أن الاستغلال المنظم للمناجم قد توقّف، إلا أن العديد من سكان المنطقة، خصوصًا الشباب والأسر الفقيرة، يغوصون في دهاليز المناجم المظلمة بحثًا عن حجارة معدنية أو معادن نفيسة قد تُدرّ عليهم بعض الدراهم،حيث يعمل هؤلاء في ظروف خطيرة للغاية، باستخدام أدوات بدائية، ويتعرّضون يوميًا لمخاطر انهيارات الصخور أو الاختناق أو سقوط الحجارة، وقد سجلت عدد من الحوادث التي أودت بحياة عمال كثيرين،مخلفين وراءهم أسرا ذنبها الوحيد هو البحث عن لقمة عيش في ظروف صعبة.

إن الفقر ما زال يشكل واقعا للاسر التي تعتمد على المناجم كمصدر للدخل وكثير منهم أفنى حياته بحثا عن بصيص أمل مفقود داخل أنفاق مناجم الموت من أجل البقاء.
ومن التحديات الاجتماعية والصحية التي يواجهها العمال المنقبون سواء من أبناء المنطقة أو خارجها ،ظروف العمل القاسية والأجور الزهيدة، بالإضافة الى المخاطر الصحية المرتبطة بالتعدين مثل الإصابة بمرض السليكوز وهو مرض أصاب العديد منهم.
كما تعد الآثار البيئية من بين أهم التحديات التي تواجه منطقة ميبلادن وأحولي، لما لها من تأثيرات سلبية على البيئة المحلية كتلوث المياه والتربة وارتفاع نسبة الغبار السام نتيجة النفايات المنجمية.

وتواجه مدينة ميدلت ومناجمها بشكل عام أوضاعا بيئية واقتصادية وإجتماعية صعبة،إلا أن هناك فرصا كبيرة لتحسين الأمور بالمنطقة مستقبلا.
إن مناجم المغرب ليست مجرد ثروة طبيعية طالها الاهمال والنسيان، بل فرصة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة،والتنويع الاقتصادي، وتعزيز السيادة الصناعية،وذلك يتطلب توازنا دقيقا بين الطموح الاستثماري، وحماية البيئة، والعدالة الاجتماعية.

أطلال شاهدة على فترة مزدهرة
عندما تشرع الشمس في الغروب على جبال ميدلت، تبدو مداخل مناجم ميبلادن وأحولي كأطلال تئن بصمت أمام التاريخ، لكن تحت هذا الصمت الحزين تختبئ قصص آلاف المنقبين الذين ما زالوا يغامرون بحياتهم في أعماق الدهاليز بحثًا عن المعادن الثمينة، على أمل أن تُنقذهم من براثن الفقر.
وأثناء استكشافنا للمنطقة،مررنا بأطلال لبيوت ومساكن ومعالم تاريخية من مساجد ومدارس فنادق وبنايات منها من يزال شامخا و صامدا أمام التغيرات المناخية ومنها من انهار بشكل كامل وأصبح ركاما منثورا.

أطلال لمدينة صغيرة عمرت لسنوات شاهدة على فترة ازدهار سجلته الذاكرة خلال عقود مضت ،مسجد عتيق لزال قائما الى يومنا هذا،بداخله يفترش سجاد قديم وبعض من المصاحف القرآنية وتسبيحات ، إلى جانب سلم مهترئ يطل على صومعة هذه المعلمة الدينية القديمة.
مدينة الأشباح،التي شيدها المستعمر ولم يتبقى منها سوى المسجد وجدران البيوت المهدمة بفعل العوامل المناخية،هجرها معظم سكانها،بحثا عن عيش أفضل بعدما تم إغلاق معظم المناجم،التي كانت مصدر رزقهم الرئيسي،بينما ظل القلة منهم يعيشون على ما تجود به المنطقة من فلاحة معيشية بسيطة أو من التنقيب واستخراج بعض المعادن داخل الأنفاق المنجمية،لعل أبرزها الرصاص الذي يحملونه على درجاتهم الهوائية صوب مركز ميدلت لبيعه بثمن بخس لايكفي حتى لسد حاجياتهم اليومية .

بصفة عامة تمثل مناجم ميبلان وأحولي حالة نموذجية لثروة كبيرة تركت أثرا تاريخيًا مهما، لكنها للأسف تحولت إلى مصدر معاناة للساكنة المحلية بعد توقف استغلالها الرسمي،إذ أن العمل تحت ظروف صعبة وخطرة، تجعل من هذه المناجم ملفا إنسانيا وبيئيا يحتاج إلى اهتمام لافت،حيث يمكن أن تشكّل إعادة تأهيل هذه الثروة الباطنية مصلحة عامة إذا ما ترافقت مع سياسة إنصاف وتنمية مستدامة.
فرص التنمية المستدامة المستقبلية في المنطقة
ونحن في طريق العودة ،تحصرنا على ما آلت اليه الأوضاع في هذه المنطقة الجميلة،ورغم ذلك من الممكن أن يكون لها مستقبل أفضل،حيث يمكن استخلاص العبرة مما عاشته في الماضي، وتغيير الوضع من التهميش إلى تنمية مستدامة واعدة تحفظ للأهالي كرامتهم وتضمن لهم حقوقهم وتمكنهم من عيش كريم ،لأن المنطقة لا تقتصر فقط على المعادن بل هي منطقة فلاحية طبيعية وسياحة جيولوجية بامتياز .

كلنا أمل في إحياء هذه المنطقة الغنية من جديد، عن طريق إعادة تأهيل المناجم القديمة وتطوير تقنيات التعدين فيها ،من خلال استخدام تقنيات حديثة ومتطورة تضمن سلامة العاملين مع الحرص على تكوينهم وتأطيرهم في مجال التنقيب والعمل المنجمي، إضافة إلى تقنين عملية استخراج المعادن من أجل ضمان استمراريتها وعدم استنزافها ،بهدف تحسين الاقتصاد المحلي.
إن هذا الموروث الجماعي المادي والإنساني، يعتبر ثروة نادرة وجب تثمينها والحفاظ عليها،من خلال تصميم نموذج تشاركي قائم على التعاون بين السلطات المختصة والمجتمع المدني والساكنة،وخبراء البيئة والمناجم، لتفعيل استغلال المناجم مرة أخرى بطريقة منظمة وصديقة للبيئة.

كما يجب العمل على جلب استثمارات سواء وطنية أو دولية ،للعمل على إعادة فتح هذه المناجم وفق للشروط والقوانين المعمول بها في هذا المجال،إذ أن المناجم القديمة والمستحاثات الموجودة في المنطقة تُمثّل إمكانيات سياحية وجيولوجية مهمة، لكنها لم تُستغل بعد بالشكل المطلوب.

عموما تمثل مناجم ميبلادن وأحولي، مثالا صارخا على الفجوة بين ما تمنحه الطبيعة من موارد وفيرة، وما يحصل عليه الإنسان من واقع يومي من معاناة.
إن إعادة إحياء هذه الثروات بطريقة عادلة، آمنة ومستدامة، ليست مجرد مطلب تنموي، بل حق إنساني وأخلاقي للسكان الذين عاشوا على هذا التراب وعانوا من تداعيات استغلاله المتقطع وغير المنظم، بقدر ما تكون الإرادة السياسية والمجتمعية قوية، بقدر ما يمكن أن يتحقق الأمل، ليكون معدن الأرض زادا لا فتنة، ورزقا كريما لا كارثة.





