بالقاسم امنزو
الأربعاء 13 مارس 2024 – 16:55
في أول سفر له إلى ما يسمى بالمدينة، أو على الأصح ما كان يقال في حضرته عند الأهالى في الأعالي، لم يصدق أركاز (رجل في مقتبل العمر) ما اكتشفه، وما رآه بأم عينيه، وما سمعه في الشارع، وما لاحظه في المقاهي والملاهي، وما صادفه في طريقه، وكل ما اكتشفه وعاينه أثناء مقامه بين هذه المجمعات السكنية التي يسمونها “الحاضرة” والتي تبعد بأكثر من سبعمائة كيلومتر عن مقر سكناه.
غير بعيد عن المحطة الطرقية حيث أقلته الحافلة، لاحظ امرأة تعمل حارسة للسيارات، ونظراتها ترسل وتسترسل مختلف أشكال المعاناة والبؤس والعنف والاستغلال، ليتساءل؟! حيث تبادر إلى ذهنه مشهد رئيسات بعض الجمعيات اللواتي زرن ذات يوم بلدته وهن يتحدثن عن المساواة والنهوض بحقوق المرأة، وتذكّر كيف كاد أن يغمى على جدته بسبب رداءة عكر وعطر إحدى الرئيسات عندما اقتربت من السيدة المسنة لتحيتها ومصافحتها بملامسة الخد بالخد.
قبل أن يجد جوابا لهذا التساؤل فاجأته امرأة أخرى رفقة طفلين تطلب “صدقة في سبيل الله”، وتجاعيد وجهها تلخص معاناة كل نساء العالم الثالث والرابع والخامس.
لم يصدق أركاز ما رآه في طريقه إلى الفندق الذي ما إن دخله حتى اقشعر جسمه لمّا لاحظ ظروف اشتغال مضيفة المؤسسة الفندقية، وعاملة النظافة في الطابق العلوي، الذي حجز به غرفته.
بعد استراحة خفيفة، نزل أركاز إلى المقهى المجاور للفندق لتناول وجبة الغذاء ، وهناك وجد شابة تعمل نادلة، استقبلته بابتسامة تعجز عن حجب حجم المعاناة، رحبت به قبل أن تعرض عليه قائمة المطعم ليختار وجبته، لكن قساوة ما شاهده في طريقه وما قرأه في عيني النادلة من مأساة، أفقده شهية الأكل.
وكم كان المشهد غريبا حين التقط بصره مجموعة من الشباب وهم يتابعون بحماس قلّ نظيره – على ما يبدو – مباراة كرة القدم على شاشة كبيرة مثبتة على الحائط، فيتساءل: كيف سُلب حتى اللعب من هؤلاء، وكيف تم تحويلهم إلى مجرد متابعين؟! واصل طريقه وهو يتعجّب كيف صار هؤلاء مفعولا بهم بدل أن يكونوا فاعلين.
بين الفاعل و”المفعول به” استحضر أركاز قصة ذلك المسؤول الحزبي الذي فوّت لابنه الجماعة، والآخر الذي ألحق نجله بمكتبه بعد “تسكع” في الخارج، والثالث الذي يستعد لتفويت الحزب برمته لابنه، والرابع الذي شيّد مقهى للريع لأبناء زوجته فوق أرض تابعة للأملاك المخزنية، وتلاطمت في مخيلته الأعداد……وتضاربت الصور والمشاهد حتى كاد يصاب بالدُّوار…
هنا تذكر أركاز نعمة الجبل رغم قساوة الطبيعة وقسوة الإنسان؛ حيث لازال الشباب فاعلا، يتابع الدراسة في وقتها، وفصولها من أجل العلم، لا من أجل الحصول على وظيفة في مدينة بعيدة، يجتهد ويشتغل في وقت العمل، ويلعب في وقت الفراغ؛ وحيث لازالت المرأة تحافظ على أنوثتها وكبريائها وعزتها دونما أصباغ، وحيث لازالت الأسرة تحافظ على تماسكها وبنيانها دون مدونة.